ولقائل أن يقول : إنه تعالى قال :﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَـاهَدتُّمْ﴾ فهذا يجب أن يكون مختصاً بالعهود التي يلتزمها الإنسان باختيار نفسه لأن قوله :﴿إِذَا عَـاهَدتُّمْ﴾ يدل على هذا المعنى وحينئذ لا يبقى المعنى الذي ذكره القاضي معتبراً ولأنه تعالى قال في آخر الآية :﴿وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا ﴾ وهذا يدل على أن الآية واردة فيمن آمن بالله والرسول، وأيضاً يجب أن لا يحمل هذا العهد على اليمين، لأنا لو حملناه عليه لكان قوله بعد ذلك :﴿وَلا تَنقُضُوا الايْمَـانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ تكراراً لأن الوفاء بالعهد والمنع من النقض متقاربان، لأن الأمر بالفعل يستلزم النهي عن الترك إلا إذا قيل إن الوفاء بالعهد عام فدخل تحته اليمين، ثم إنه تعالى خص اليمين بالذر تنبيهاً على أنه أولى أنواع العهد بوجوب الرعاية، وعند هذا نقول الأولى أن يحمل هذا العهد على ما يلتزمه الإنسان باختياره ويدخل فيه المبايعة على الإيمان بالله وبرسوله ويدخل فيه عهد الجهاد، وعهد الوفاء بالملتزمات من المنذورات، والأشياء التي أكدها بالحلف واليمين، وفي قوله :﴿وَلا تَنقُضُوا الايْمَـانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ مباحث :
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٦٥
البحث الأول : قال الزجاج : يقال وكدت وأكدت لغتان جيدتان، والأصل الواو، والهمزة بدل منها.
البحث الثاني : قال أصحاب أبي حنيفة رحمه الله : يمين اللغو هي يمين الغموس، والدليل عليه أنه تعالى قال :﴿وَلا تَنقُضُوا الايْمَـانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ فنهى في هذه الآية عن نقض الأيمان/ فوجب أن يكون كل يمين قابلاً للبر والحنث، ويمين الغموس غير قابلة للبر والحنث فوجب أن لا تكون من الأيمان. واحتج الواحدي بهذه الآية على أن يمين اللغو هي قول العرب لا والله وبلى والله. قال إنما قال تعالى :﴿بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ للفرق بين الأيمان المؤكدة بالعزم وبالعقد وبين لغو اليمين.
البحث الثالث : قوله :﴿وَلا تَنقُضُوا الايْمَـانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ عام دخله التخصيص، لأنا بينا/ أن الخبر دل على أنه متى كان الصلاح في نقض الأيمان جاز نقضها.
ثم قال :﴿وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا ﴾ هذه واو الحال، أي لا تنقضوها وقد جعلتم الله كفيلاً عليكم بالوفاء، وذلك أن من حلف بالله تعالى فكأنه قد جعل الله كفيلاً بالوفاء بسبب ذلك الحلف.
ثم قال :﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ وفيه ترغيب وترهيب، والمراد فيجازيكم على ما تفعلون إن خيراً فخير وإن شراً فشر. ثم إنه تعالى أكد وجوب الوفاء، وتحريم النقض وقال :﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنا بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَـاثًا﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في المشبه به قولان :
القول الأول : أنها امرأة من قريش يقال لها رايطة، وقيل ريطة، وقيل تلقب جعراء وكانت حمقاء تغزل الغزل هي وجواريها فإذا غزلت وأبرمت أمرتهن فنقضن ما غزلن.
والقول الثاني : أن المراد بالمثل الوصف دون التعين، لأن القصد بالأمثال صرف المكلف عنه إذا كان قبيحاً، والدعاء إليه إذا كان حسناً، وذلك يتم به من دون التعيين.
المسألة الثانية : قوله :﴿مِنا بَعْدِ قُوَّةٍ﴾ أي من به قوة الغزل بإبرامها وفتلها.
المسألة الثالثة : قوله :﴿أَنكَـاثًا﴾ قال الأزهري : واحدها : نكث وهو الغزل من الصوف والشعر يبرم وينسج فإذا أحكمت النسيجة قطعتها ونكثت خيوطها المبرمة ونفشت تلك الخيوط وخلطت بالصوف ثم غزلت ثانية، والنكث المصدر، ومنه يقال نكث فلان عهده إذا نقضه بعد إحكامه كما ينكث خيط الصوف بعد إبرامه.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٦٥
المسألة الرابعة : في انتصاب قوله :﴿أَنكَـاثًا﴾ وجوه : الأول : قال الزجاج : أنكاثاً منصوب لأنه بمعنى المصدر لأن معنى نكثت نقضت ومعنى نقضت نكثت، وهذا غلط منه، لأن الأنكاث جمع نكث وهو اسم لا مصدر فكيف يكون قوله :﴿أَنكَـاثًا﴾ بمعنى المصدر ؟
الثاني : قال الواحدي : أنكاثاً مفعول ثان كما تقول كسره أقطاعاً وفرقه أجزاء على معنى جعله أقطاعاً وأجزاء فكذا ههنا قوله : نقضت غزلها أنكاثاً أي جعلت غزلها أنكاثاً. الثالث : إن قوله :﴿أَنكَـاثًا﴾ حال مؤكدة.
المسألة الخامسة : قال ابن قتيبة : هذه الآية متصلة بما قبلها، والتقدير : وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها، فإنكم إن فعلتم ذلك كنتم مثل المرأة التي غزلت غزلاً وأحكمته فلما استحكم نقضته فجعلته أنكاثاً.
ثم قال تعالى :﴿تَتَّخِذُونَ أَيْمَـانَكُمْ دَخَا بَيْنَكُمْ﴾ قال الواحدي : الدخل والدغل الغش والخيانة. قال الزجاج : كل ما دخله عيب قيل هو مدخول وفيه دخل، وقال غيره : الدخل ما أدخل في الشيء على فساد.


الصفحة التالية
Icon