ثم قال :﴿أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ﴾ أربى أي أكثر من ربا الشيء يربو إذا زاد، وهذه الزيادة قد تكون في العدد وفي القوة وفي الشرف. قال مجاهد : كانوا يحالفون الحلفاء ثم يحدون من كان أعز منهم وأشرف فينقضون حلف الأولين ويحالفون هؤلاء الذين هم أعز، فنهاهم الله تعالى عن ذلك. وقوله :﴿أَن تَكُونَ﴾ معناه أنكم تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم بسبب أن تكون أمة أربى من أمة في العدد والقوة والشرف. فقوله :﴿تَتَّخِذُونَ أَيْمَـانَكُمْ دَخَا بَيْنَكُمْ﴾ استفهام على سبيل الإنكار/ والمعنى : أتتخذون أيمانكم دخلاً بينكم بسبب أن أمة أزيد في القوة والكثرة من أمة أخرى.
ثم قال تعالى :﴿إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِه ﴾ أي بما يأمركم وينهاكم، وقد تقدم ذكر الأمر والنهي :﴿وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ فيتميز المحق من المبطل بما يظهر من درجات الثواب والعقاب، والله أعلم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٦٥
٢٦٥
اعلم أنه تعالى لما كلف القوم بالوفاء بالعهد وتحريم نقضه، أتبعه ببيان أنه تعالى قادر على أن يجمعهم على هذا الوفاء وعلى سائر أبواب الأيمان، ولكنه سبحانه بحكم الإلهية يضل من يشاء ويهدي من يشاء. أما المعتزلة : فإنهم حملوا ذلك على الإلجاء، أي لو أراد أن يلجئهم إلى الإيمان أو إلى الكفر لقدر عليه، إلا أن ذلك يبطل التكليف، فلا جرم ما ألجأهم إليه وفوض الأمر إلى اختيارهم في هذه التكاليف، وأما قول أصحابنا فيه فهو ظاهر، وهذه المناظرة قد تكررت مراراً كثيرة، وروى الواحدي أن عزيراً قال : يا رب خلقت الخلق فتضل من تشاء وتهدي من تشاء، فقال : يا عزيز أعرض عن هذا، فأعاده ثانياً : فقال : أعرض عن هذا، فأعاده ثالثاً، فقال : أعرض عن هذا وإلا محوت اسمك من النبوة. قالت المعتزلة : ومما يدل على أن المراد من هذه المشيئة مشيئة الإلجاء، أنه تعالى قال بعده :﴿وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ﴾ فلو كانت أعمال العباد بخلق الله تعالى لكان سؤالهم عنها عبثاً، والجواب عنه قد سبق مراراً، والله أعلم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٦٥
٢٦٨
اعلم أنه تعالى لما حذر فء الآية الأولى عن نقض العهود والإيمان على الإطلاق، حذر في هذه الآية فقال :﴿وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَـانَكُمْ دَخَا بَيْنَكُمْ﴾ وليس المراد منه التحذير عن نقض مطلق الإيمان، وإلا لزم التكرير الخالي عن الفائدة في موضع واحد، بل المراد نهي أولئك الأقوام المخاطبين بهذا الخطاب عن نقض أيمان مخصوصة أقدموا عليها، فلهذا المعنى قال المفسرون : المراد من هذه الآية نهي الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن نقض عهده، لأن هذا الوعيد هو قوله :﴿فَتَزِلَّ قَدَمُا بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾ لا يليق بنقض عهده قبله، وإنما يليق بنقض عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم على الإيمان به وشرائعه. وقوله :﴿فَتَزِلَّ قَدَمُا بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾ مثل يذكر لكل من وقع في بلاء بعد عافية، فإن من نقض عهد الإسلام فقد سقط عن الدرجات العالية ووقع في مثل هذه الضلالة، ويدل على هذا قوله تعالى :﴿وَتَذُوقُوا السُّواءَ﴾ أي العذاب :﴿بِمَا صَدَدتُّمْ﴾ أي بصدكم :﴿عَن سَبِيلِ اللَّه وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ أي ذلك السوء الذي تذوقونه سوء عظيم وعقاب شديد، / ثم أكد هذا التحذير فقال :﴿وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا ﴾ يريد عرض الدنيا وإن كان كثيراً، إلا أن ما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون، يعني أنكم وإن وجدتم على نقض عهد الإسلام خيراً من خيرات الدنيا، فلا تلتفتوا إليه، لأن الذي أعهد الله تعالى على البقاء على الإسلام خير وأفضل وأكمل مما يجدونه في الدنيا على نقض عهد الإسلام إن كنتم تعلمون التفاوت بين خيرات الدنيا وبين خيرات الآخرة، ثم ذكر الدليل القاطع على أن ما عند الله خير مما يجدونه من طيبات الدنيا فقال :﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُا وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ ﴾ وفيه بحثان :
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٦٨
البحث الأول : الحس شاهد بأن خيرات الدنيا منقطعة، والعقل دل على أن خيرات الآخرة باقية، والباقي خير من المنقطع، والدليل عليه أن هذا المنقطع إما أن يقال : إنه كان خيراً عالياً شريفاً أو كان خيراً دنياً خسيساً، فإن قلنا : إنه كان خيراً عالياً شريفاً فالعلم بأنه سينقطع يجعله منغصاً حال حصوله، وأما حال حصول ذلك الانقطاع فإنها تعظم الحسرة والحزن، وكون تلك النعمة العالية الشريفة كذلك ينغص فيها ويقلل مرتبتها وتفتر الرغبة فيها، وأما إن قلنا : إن تلك النعمة المنقطعة كانت من الخيرات الخسيسة فهمنا من الظاهر أن ذلك الخير الدائم وجب أن يكون أفضل من ذلك الخير المنقطع، فثبت بهذا أن قوله تعالى :﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُا وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ ﴾ برهان قاطع على أن خيرات الآخرة أفضل من خيرات الدنيا.