المرتبة الأولى : أن يجب الفعل المكره عليه مثل ما إذا أكرهه على شرب الخمر وأكل الخنزير وأكل الميتة فإذا أكرهه عليه بالسيف فههنا يجب الأكل، وذلك لأن صون الروح عن الفوات واجب، ولا سبيل إليه في هذه الصورة إلا بهذا الأكل، وليس في هذا الأكل ضرر على حيوان ولا فيه إهانة لحق الله تعالى، فوجب أن يجب لقوله تعالى :﴿وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ (البقرة : ١٩٥).
المرتبة الثانية : أن يصير ذلك الفعل مباحاً ولا يصير واجباً، ومثاله ما إذا أكرهه على التلفظ بكلمة الكفر فههنا يباح له ولكنه لا يجب كما قررناه.
المرتبة الثالثة : أن لا يجب ولا يباح بل يحرم، وهذا مثل ما إذا أكرهه إنسان على قتل إنسان آخر أو على قطع عضو من أعضائه فههنا يبقى الفعل على الحرمة الأصلية، وهل يسقط القصاص عن المكره أم لا ؟
قال الشافعي رحمه الله : في أحد قوليه يجب القصاص ويدل عليه وجهان. الأول : أنه قتله عمداً عدواناً فيجب عليه القصاص لقوله تعالى :﴿الْمُتَّقُونَ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ﴾ (البقرة : ١٧٨). والثاني : أجمعنا على أن المكره إذا قصد قتله فإنه يحل له أن يدفعه عن نفسه ولو بالقتل، فلما كان توهم إقدامه على القتل يوجب إهدار دمه، فلأن يكون عند صدور القتل منه حقيقة يصير دمه مهدراً كان أولى والله أعلم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٧٧
المسألة الثامنة : من الأفعال ما يقبل الإكراه عليه كالقتل والتكلم بكلمة الكفر، ومنه ما لا يقبل الإكراه عليه قيل : وهو الزنا. لأن الإكراه يوجب الخوف الشديد وذلك يمنع من انتشار الآلة، فحيث دخل الزنا في الوجود علم أنه وقع بالاختيار لا على سبيل الإكراه.
المسألة التاسعة : قال الشافعي رحمه الله : طلاق المكره لا يقع، وقال أبو حنيفة رحمه الله : يقع، وحجة الشافعي رحمه الله : قوله :﴿لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ ﴾ ولا يمكن أن يكون المراد نفي ذاته لأن ذاته موجودة فوجب حمله على نفي آثاره، والمعنى : أنه لا أثر له ولا عبرة به، وأيضاً قوله عليه السلام :"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وأيضاً قوله عليه السلام :"لا طلاق في إغلاق" أي إكراه فإن قالوا : طلقها فتدخل تحت قوله :﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَه ﴾ (البقرة : ٢٣٠) فالجواب لما تعارضت الدلائل، وجب أن يبقى ما كان على ما كان على ما هو قولنا والله أعلم.
المسألة العاشرة : قوله :﴿وَقَلْبُه مُطْمَـاـاِنُّا بِالايمَـانِ﴾ يدل على أنه محل الإيمان هو القلب والذي محله القلب إما الاعتقاد، وإما كلام النفس، فوجب أن يكون الإيمان عبارة إما عن المعرفة وإما عن التصديق بكلام النفس والله أعلم.
ثم قال تعالى :﴿وَلَـاكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا﴾ أي فتحه ووسعه لقبول الكفر وانتصب صدراً على أنه مفعول لشرح، والتقدير : ولكن من شرح بالكفر صدره، وحذف الضمير لأنه لا يشكل بصدر غيره إذ البشر لا يقدر على شرح صدر غيره فهو نكرة يراد بها المعرفة.
ثم قال :﴿فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ﴾ والمعنى أنه تعالى حكم عليهم بالعذاب ثم وصف ذلك العذاب فقال :﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٧٧