ثم قال تعالى :﴿ذَالِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَواةَ الدُّنْيَا عَلَى الاخِرَةِ﴾ أي رجحوا الدنيا على الآخرة، والمعنى : أن ذلك الارتداد وذلك الإقدام على الكفر لأجل أنه تعالى ما هداهم إلى الإيمان وما عصمهم عن الكفر. قال القاضي : المراد أن الله لا يهديهم إلى الجنة فيقال له هذا ضعيف، لأن قوله :﴿وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَـافِرِينَ﴾ معطوف على قوله :﴿ذَالِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَواةَ الدُّنْيَا عَلَى الاخِرَةِ﴾ فوجب أن يكون قوله :﴿وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَـافِرِينَ﴾ علة وسبباً موجباً لإقدامهم على ذلك الارتداد، وعدم الهداية يوم القيامة إلى الجنة ليس سبباً لذلك الارتداد، ولا علة له بل مسبباً عنه ومعلولاً له فبطل هذا التأويل، ثم أكد بيان أنه تعالى صرفهم عن الإيمان فقال :﴿ أولئك الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَـارِهِمْ ﴾ قال القاضي : الطبع ليس يمنع من الإيمان ويدل عليه وجوه : الأول : أنه تعالى ذكر ذلك في معرض الذم لهم، ولو كانوا عاجزين عن الإيمان به لما استحقوا الذم بتركه. والثاني : أنه تعالى أشرك بين السمع والبصر وبين القلب في هذا الطبع ومعلوم من حال السمع والبصر أن مع فقدهما قد يصح أن يكون مؤمناً فضلاً عن طبع يلحقهما في القلب. والثالث : وصفهم بالغفلة. ومن منع من الشيء لا يوصف بأنه غافل عنه، فثبت أن المراد بهذا الطبع السمة والعلامة التي يخلقها في القلب، وقد ذكرنا في سورة البقرة معنى الطبع والختم، وأقول هذه الكلمات مع التقريرات الكثيرة، ومع الجوابات القوية مذكورة في أول سورة البقرة وفي سائر الآيات فلا فائدة في الإعادة.
ثم قال تعالى :﴿وَ أولئك هُمُ الْغَـافِلُونَ﴾ قال ابن عباس : أي عما يراد بهم في الآخرة.
ثم قال :﴿لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الآخِرَةِ هُمُ الْخَـاسِرُونَ﴾ واعلم أن الموجب لهذا الخسران هو أن الله تعالى وصفهم في الآيات المتقدمة بصفات ستة.
الصفة الأولى : أنهم استوجبوا غضب الله.
والصفة الثانية : أنهم استحقوا العذاب الأليم.
والصفة الثالثة : أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٧٧
والصفة الرابعة : أنه تعالى حرمهم من الهداية.
والصفة الخامسة : أنه تعالى طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم.
والصفة السادسة : أنه جعلهم من الغافلين عما يراد بهم من العذاب الشديد يوم القيامة فلا جرم لا يسعون في دفعها، فثبت أنه حصل في حقهم هذه الصفات الستة التي كل واحد منها من أعظم الأحوال المانعة عن الفوز بالخيرات والسعادات، ومعلوم أنه تعالى إنما أدخل الإنسان الدنيا/ ليكون كالتاجر الذي يشتري بطاعاته سعادات الآخرة، فإذا حصلت هذه الموانع العظيمة عظم خسرانه، فلهذا السبب قال :﴿لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الآخِرَةِ هُمُ الْخَـاسِرُونَ﴾ أي هم الخاسرون لا غيرهم، والمقصود التنبيه على عظم خسرانهم والله أعلم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٧٧
٢٧٨
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة حال من كفر بالله من بعد إيمانه وحال من أكره على الكفر، فذكر بسبب الخوف كلمة الكفر وحال من لم يذكرها، ذكر بعده حال من هاجر من بعد ما فتن فقال :﴿إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنا بَعْدِ مَا فُتِنُوا ﴾.
المسألة الثانية : قرأ ابن عامر :﴿فُتِنُوا ﴾ بفتح الفاء على إسناد الفعل إلى الفاعل، والباقون بضم الفاء على فعل ما لم يسم فاعله. أما وجه القراءة الأولى فأمور. الأول : أن يكون المراد أن أكابر المشركين وهم الذين آذوا فقراء المسلمين لو تابوا وهاجروا وصبروا فإن الله يقبل توبتهم. والثاني : أن فتن وأفتن بمعنى واحد، كما يقال : مان وأمان بمعنى واحد، والثالث : أن أولئك الضعفاء لما ذكروا كلمة الكفر على سبيل التقية فكأنهم فتنوا أنفسهم، وإنما جعل ذلك فتنة، لأن الرخصة في إظهار كلمة الكفر ما نزلت في ذلك الوقت. وأما وجه القراءة بفعل ما لم يسم فاعله فظاهر، لأن أولئك المفتونين هم المستضعفون الذين حملهم أقوياء المشركين على الردة والرجوع عن الإيمان، فبين تعالى أنهم إذا هاجروا وجاهدوا وصبروا فإن الله تعالى يغفر لهم تكلمهم بكلمة الكفر.


الصفحة التالية
Icon