المسألة الثانية : قوله :﴿مِنا بَعْدِ مَا فُتِنُوا ﴾ يحتمل أن يكون المراد بالفتنة هو أنهم عذبوا، ويحتمل أن يكون المراد هو أنهم خوفوا بالتعذيب، ويحتمل أن يكون المراد أن أولئك المسلمين ارتدوا. قال الحسن : هؤلاء الذين هاجروا من المؤمنين كانوا بمكة، فعرضت لهم فتنة فارتدوا / وشكوا في الرسول صلى الله عليه وسلّم ثم إنهم أسلموا وهاجروا فنزلت هذه الآية فيهم، وقيل : نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ارتد، فلما كان يوم الفتح أمر النبي صلى الله عليه وسلّم بقتله فاستجار له عثمان فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم إنه أسلم وحسن إسلامه، وهذه الرواية إنما تصح لو جعلنا هذه السورة مدنية أو جعلنا هذه الآية منها مدنية، ويحتمل أن يكون المراد أن أولئك الضعفاء المعذبين تكلموا بكلمة الكفر على سبيل التقية، فقوله :﴿مِنا بَعْدِ مَا فُتِنُوا ﴾ يحتمل كل واحد من هذه الوجوه الأربعة، وليس في اللفظ ما يدل على التعيين.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٧٨
إذا عرفت هذا فنقول : إن كانت هذه الآية نازلة فيمن أظهر الكفر، فالمراد أن ذلك مما لا إثم فيه، وأن حاله إذا هاجر وجاهد وصبر كحال من لم يكره، وإن كانت واردة فيمن ارتد فالمراد أن التوبة والقيام بما يجب عليه يزيل ذلك العقاب ويحصل له الغفران والرحمة، فالهاء في قوله :﴿مِنا بَعْدِهَا﴾ تعود إلى الأعمال المذكورة فيما قبل، وهي الهجرة والجهاد والصبر.
أما قوله :﴿يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَـادِلُ عَن نَّفْسِهَا﴾ ففيه أبحاث :
البحث الأول : قال الزجاج :(يوم) منصوب على وجهين. أحدهما : أن يكون المعنى :﴿إِنَّ رَبَّكَ مِنا بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ * يَوْمَ تَأْتِى﴾ يعني أنه تعالى يعطي الرحمة والغفران في ذلك اليوم الذي يعظم احتياج الإنسان فيه إلى الرحمة والغفران. والثاني : أن يكون التقدير : وذكرهم أو اذكر يوم كذا وكذا، لأن معنى القرآن العظمة والإنذار والتذكير.
البحث الثاني : لقائل أن يقول : النفس لا تكون لها نفس أخرى/ فما معنى قوله :﴿كُلُّ نَفْسٍ تُجَـادِلُ عَن نَّفْسِهَا﴾.
والجواب : النفس قد يراد به بدن الحي وقد يراد به ذات الشيء وحقيقته، فالنفس الأولى هي الجثة والبدن. والثانية : عينها وذاتها، فكأنه قيل : يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته ولا يهمه شأن غيره. قال تعالى :﴿لِكُلِّ امْرِى ٍ مِّنْهُمْ يَوْمَـاـاِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ (عبس : ٣٧) وعن بعضعهم : تزفر جهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه يقول : يا رب نفسي نفسي حتى أن إبراهيم الخليل عليه السلام يفعل ذلك. ومعنى المجادلة عنها الاعتذار عنها كقولهم :﴿هَـا ؤُلاءِ أَضَلُّونَا﴾ (الأعراف : ٣٨) وقولهم :﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ (الأنعام : ٢٣).
ثم قال تعالى :﴿وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ﴾ فيه محذوف، والمعنى : توفى كل نفس جزاء ما عملت من غير بخس ولا نقصان، وقوله :﴿وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ قال الواحدي : معناه لا ينقضون. قال القاضي : هذه الآية من أقوى ما يدل على ما نذهب إليه في الوعيد، لأنها تدل على أنه تعالى يوصل إلى كل أحد / حقه من غير نقصان، ولو أنه تعالى أزال عقاب المذنب بسبب الشفاعة لم يصح ذلك.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٧٨
والجواب : لا نزاع أن ظاهر العمومات يدل على قولكم، إلا أن مذهبنا أن التمسك بظواهر العمومات لا يفيد القطع، وأيضاً فظواهر الوعيد معارضة بظواهر الوعد، ثم بينا في سورة البقرة في تفسير قوله :﴿بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَـاطَتْ بِه خَطِى ـئَتُه ﴾ (البقرة : ٨١) أن جانب الوعد راجح على جانب الوعيد من وجوه كثيرة، والله أعلم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٧٨
٢٨٠
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما هدد الكفار بالوعيد الشديد في الآخرة هددهم أيضاً بآفات الدنيا وهو الوقوع في الجوع والخوف، كما ذكره في هذه الآية.
المسألة الثانية : المثل قد يضرب بشيء موصوف بصفة معينة سواء كان ذلك الشيء موجوداً أو لم يكن موجوداً وقد يضرب بشيء موجود معين، فهذه القرية التي ضرب الله بها هذا المثل يحتمل أن تكون شيئاً مفروضاً ويحتمل أن تكون قرية معينة، وعلى هذا التقدير الثاني فتلك القرية يحتمل أن تكون مكة أو غيرها، والأكثرون من المفسرين على أنها مكة، والأقرب أنها غير مكة لأنها ضربت مثلاً لمكة، ومثل مكة يكون غير مكة.
المسألة الثالثة : ذكر الله تعالى لهذه القرية صفات :
الصفة الأولى : كونها آمنة أي ذات أمن لا يغار عليهم كما قال :﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا ءَامِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾ (العنكبوت : ٦٧) والأمر في مكة كان كذلك، لأن العرب كان يغير بعضهم على بعض. أما أهل مكة، فإنهم كانوا أهل حرم الله، والعرب كانوا يحترمونهم ويخصونهم بالتعظيم والتكريم.


الصفحة التالية
Icon