والجواب : أن قوله :﴿لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ﴾ ليس فيه بيان كذب على الله تعالى فأعاد قوله :﴿لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ﴾ ليحصل فيه هذا البيان الزائد ونظائره في القرآن كثيرة. وهو أنه تعالى يذكر كلاماً ثم يعيده بعينه مع فائدة زائدة. الثاني : أن تكون (ما) موصولة، والتقدير ولا تقولوا للذي تصف ألسنتكم الكذب فيه هذا حلال وهذا حرام، وحذف لفظ فيه لكونه معلوماً.
المسألة الثالثة : قوله تعال :﴿تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ﴾ من فصيح الكلام وبليغه كأن ماهية الكذب وحقيقته مجهولة وكلامهم الكذب يكشف حقيقة الكذب ويوضح ماهيته، وهذا مبالغ في وصف كلامهم بكونه كذباً، ونظيره قول أبي العلاء المعري :
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٨٢
سرى برق المعرة بعد وهن
فبات برامة يصف الكلالا والمعنى : أن سرى ذلك البرق يصف الكلال فكذا ههنا، والله أعلم.
ثم قال تعالى :﴿لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ﴾ المعنى : أنهم كانوا ينسبون ذلك التحريم والتحليل إلى الله تعالى ويقولون : إنه أمرنا بذلك. وأظن أن هذا اللام ليس لام الغرض، لأن ذلك الافتراء ما كان غرضاً لهم بل كان لام العاقبة كقوله تعالى :﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ﴾ (القصص : ٨) قال الواحدي : وقوله :﴿لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ﴾ بدل من قوله :﴿لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ﴾ لأن وصفهم الكذب هو افتراء على الله تعالى، ففسر وصفهم الكذب بالافتراء على الله تعالى، ثم أوعد المفترين، وقال :﴿إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ﴾ ثم بيّن أن ما هم فيه من نعيم الدنيا يزول عنهم من قريب، فقال :﴿مَتَـاعٌ قَلِيلٌ﴾ قال الزجاج : المعنى متاعهم متاع قليل، وقال ابن عباس : بل متاع كل الدنيا متاع قليل، ثم يردون إلى عذاب أليم، وهو قوله :﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٨٢
٢٨٢
اعلم أنه تعالى لما بين ما يحل وما يحرم لأهل الإسلام، أتبعه ببيان ما خص اليهود به من المحرمات / فقال :﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ ﴾ وهو الذي سبق ذكره في سورة الأنعام.
ثم قال تعالى :﴿وَمَا ظَلَمْنَـاهُمْ وَلَـاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ وتفسيره هو المذكور في قوله تعالى :﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَـاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ (النساء : ١٦٠).
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٨٢
٢٨٣
اعلم أن المقصود بيان أن الافتراء على الله ومخالفة أمر الله لا يمنعهم من التوبة وحصول المغفرة والرحمة. ولفظ السوء يتناول كل ما لا ينبغي وهو الكفر والمعاصي، وكل من عمل السوء فإنما يفعله بالجهالة، أما الكفر فلأن أحداً لا يرضى به مع العلم بكونه كفراً، فإنه ما لم يعتقد كون ذلك المذهب حقاً وصدقاً، فإنه لا يختاره ولا يرتضيه، وأما المعصية فما لم تصر الشهوة غالبة للعقل والعلم لم تصدر عنه تلك المعصية، فثبت أن كل من عمل السوء فإنما يقدم عليه بسبب الجهالة، فقال تعالى : إنا قد بالغنا في تهديد أولئك الكفار الذين يحللون ويحرمون بمقتضى السهوة والفرية على الله تعالى، ثم إنا بعد ذلك نقول : إن ربك في حق الذين عملوا السوء بسبب الجهالة، ثم تابوا من بعد ذلك، أي من بعد تلك السيئة، وقيل : من بعد تلك الجهالة، ثم إنهم بعد التوبة عن تلك السيئات أصلحوا، أي آمنوا وأطاعوا الله.
ثم أعاد قوله :﴿إِنَّ رَبَّكَ مِنا بَعْدِهَا﴾ على سبيل التأكيد. ثم قال :﴿لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ والمعنى : إنه لغفور رحيم لذلك السوء الذي صدر عنهم بسبب الجهالة، وحاصل الكلام أن الإنسان وإن كان قد أقدم على الكفر والمعاصي دهراً دهيراً وأمداً مديداً، فإذا تاب عنه وآمن وأتى بالأعمال الصالحة فإن الله غفور رحيم، يقبل توبته ويخلصه من العذاب.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٨٣
٢٨٥
اعلمأنه تعالى لما زيف في هذه السورة مذاهب المشركين في أشياء، منها قولهم بإثبات الشركاء والأنداد لله تعالى، ومنها طعنهم في نبوة الأنبياء والرسل عليهم السلام، وقولهم لو أرسل الله رسولاً لكان ذلك الرسول من الملائكة. ومنها قولهم بتحليل أشياء حرمها الله، وتحريم أشياء أباحها الله تعالى، فلما بالغ في إبطال مذاهبهم في هذه الأقوال، وكان إبراهيم عليه السلام رئيس الموحدين وقدوة الأصوليين، وهو الذي دعا الناس إلى التوحيد وإبطال الشرك وإلى الشرائع. والمشركون كانوا مفتخرين به معترفين بحسن طريقته مقرين بوجوب الاقتداء به، لا جرم ذكره الله تعالى في آخر هذه السورة، وحكى عنه طريقته في التوحيد ليصير ذلك حاملاً لهؤلاء المشركين على الإقرار بالتوحيد والرجوع عن الشرك، واعلم أنه تعالى وصف إبراهيم عليه السلام بصفات :


الصفحة التالية
Icon