الصفة الأول : أنه كان أمة، وفي تفسيره وجوه : الأول : أنه كان وحده أمة من الأمم لكماله في صفات الخير كقوله :
ليس على الله بمستنكر
أن يجمع العالم في واحد الثاني : قال مجاهد، كان مؤمناً وحده، والناس كلهم كانوا كفاراً فلهذا المعنى كان وحده أمة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول في زيد بن عمرو بن نفيل :"يبعثه الله أمة وحدة". الثالث : أن يكون أمة فعلة بمعنى مفعول كالرحلة والبغية، فالأمة هو الذي يؤتم به، ودليله قوله :﴿إِنِّى جَـاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ﴾ (البقرة : ١٢٤). الرابع : أنه عليه السلام هو السبب الذي لأجله جعلت أمته ممتازين عمن سواهم بالتوحيد والدين الحقا، ولما جرى مجرى السبب لحصول تلك الأمة سماه الله تعالى بالأمة إطلاقاً / لاسم المسبب على السبب، وعن شهر بن حوشب لم تبق أرض إلا وفيها أربعة عشر يدفع الله بهم عن أهل الأرض إلا زمن إبراهيم عليه السلام فإنه كان وحده.
الصفة الثانية : كونه قانتاً لله، والقانت هو القائم بما أمره الله تعالى به قال ابن عباس رضي الله عنهما : معناه كونه مطيعاً لله.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٨٥
الصفة الثالثة : كونه حنيفاً والحنيف المائل إلى ملة الإسلام ميلاً لا يزول عنه، قال ابن عباس رضي الله عنهما : إنه أول من اختتن وأقام مناسك الحج وضحى، وهذه صفة الحنيفية.
الصفة الرابعة : قوله :﴿وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ معناه : أنه كان من الموحدين في الصغر والكبر والذي يقرر كونه كذلك أن أكثر همته عليه السلام كان في تقرير علم الأصول فذكر دليل إثبات الصانع مع ملك زمانه وهو قوله :﴿رَبِّيَ الَّذِى يُحْىِا وَيُمِيتُ﴾ (البقرة : ٢٥٨) ثم أبطل عبادة الأصنام والكواكب بقوله :﴿لا أُحِبُّ الافِلِينَ﴾ (الأنعام : ٧٦) ثم كسر تلك الأصنام حتى آل الأمر إلى أن ألقوه في النار، ثم طلب من الله أن يريه كيفية إحياء الموتى ليحصل له مزيد الطمأنينة، ومن وقف على علم القرآن علم أن إبراهيم عليه السلام كان غارقاً في بحر التوحيد.
الصفة الخامسة : قوله :﴿شَاكِرًا لانْعُمِه ﴾ روي أنه عليه السلام كان لا يتغدى إلا مع ضيف فلم يجد ذات يوم ضيفاً فأخر غداءه فإذا هو بقوم من الملائكة في صورة البشر فدعاهم إلى الطعام فأظهروا أن بهم علة الجذام فقال : الآن يجب عليّ مؤاكلتكم فلولا عزتكم على الله تعالى لما ابتلاكم بهذا البلاء.
فإن قيل : لفظ الأنعم جمع قلة، ونعم الله تعالى على إبراهيم عليه السلام كانت كثيرة. فلم قال :﴿شَاكِرًا لانْعُمِه ﴾.
قلنا : المراد أنه كان شاكراً لجميع نعم الله إن كانت قليلة فكيف الكثيرة.
الصفة السادسة : قوله :﴿اجْتَبَـاهُ﴾ أي اصطفاه للنبوة. والاجتباء هو أن تأخذ الشيء بالكلية وهو افتعال من جبيت، وأصله جمع المال في الحوض والجابية هي الحوض.
الصفة السابعة : قوله :﴿وَهَدَاـاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ أي في الدعوة إلى الله والترغيب في الدين الحق والتنفير عن الدين الباطل، نظيره قوله تعالى :﴿وَأَنَّ هَـاذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوه ﴾ (الأنعام : ١٥٣).
الصفة الثامنة : قوله :﴿وَءَاتَيْنَـاهُ فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً ﴾ قال قتادة : إن الله حببه إلى كل الخلق فكل أهل الأديان يقرون به، أما المسلمون واليهود والنصارى فظاهر، وأما كفار قريش وسائر العرب فلا فخر لهم إلا به، وتحقيق الكلام أن الله أجاب دعاءه في قوله :﴿وَاجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاخِرِينَ﴾ (الشعراء : ٨٤) وقال آخرون : هو قول المصلي منا كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وقيل : الصدق، والوفاء والعبادة.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٨٥
الصفة التاسعة : قوله :﴿وَإِنَّه فِى الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّـالِحِينَ﴾.
فإن قيل : لم قال :﴿وَإِنَّه فِى الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّـالِحِينَ﴾ ولم يقل : وإنه في الآخرة في أعلى مقامات الصالحين ؟
قلنا : لأنه تعالى حكى عنه أنه قال :﴿رَبِّ هَبْ لِى حُكْمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّـالِحِينَ﴾ (البقرة : ١٣٠) فقال ههنا :﴿وَإِنَّه فِى الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّـالِحِينَ﴾ تنبيهاً على أنه تعالى أجاب دعاءه ثم إن كونه من الصالحين لا ينفي أن يكون في أعلى مقامات الصالحين فإن الله تعالى بين ذلك في آية أخرى وهي قوله :﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَـاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِه ا نَرْفَعُ دَرَجَـاتٍ مَّن نَّشَآءُ ﴾ (الأنعام : ٨٣).
واعلم أنه تعالى لما وصف إبراهيم عليه السلام بهذه الصفات العالية الشريفة قال :﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ﴾ وفيه مباحث :


الصفحة التالية
Icon