ثم قال تعالى :﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِه ا وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ والمعنى : أنك مكلف بالدعوة إلى الله تعالى بهذه الطرق الثلاية، فأما حصول الهداية فلا يتعلق بك، فهو تعالى أعلم بالضالين وأعلم بالمهتدين، والذي عندي في هذا الباب أن جواهر النفوس البشرية مختلفة بالماهية، فبعضها نفوس مشرقة صافية قلية التعلق بالجسمانيات كثيرة الانجذاب إلى عالم الروحانيات وبعضها مظلمة كدرة قوية التعلق بالجسمانيات عديمة الالتفات إلى الروحانيات، ولما كانت هذه الاستعدادات من لوازم جواهرها، لا جرم يمتنع انقلابها وزوالها، فلهذا قال تعالى : اشتغل أنت بالدعوة ولا تطمع في حصول الهداية للكل، فإنه تعالى هو العالم بضلال النفوس الضالة الجاهلة وبإشراق النفوس المشرقة الصافية فلكل نفس فطرة مخصوصة وماهية مخصوصة، كما قال :﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه ﴾ (الروم : ٣٠) والله أعلم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٨٨
٢٩١
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال الواحدي : هذه الآية فيها ثلاثة أقوال :
القول الأول : وهو الذي عليه العامة أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما رأى حمزة وقد مثلوا به قال :"والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك" فنزل جبريل عليه السلام بخواتيم سورة النحل فكف رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأمسك عما أراد.
وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء، وأبي بن كعب والشعبي وعلى هذا قالوا : إن سورة النحل كلها مكية إلا هذه الآيات الثلاث.
والقول الثاني : أن هذا كان قبل الأمر بالسيف والجهاد، حين كان المسلمون قد أمروا بالقتال مع من يقاتلهم ولا يبدؤوا بالقتال وهو قوله تعالى :﴿وَقَـاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَـاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا ا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ (البقرة : ١٩٠) وفي هذه الآية أمر الله بأن يعاقبوا بمثل ما يصيبهم من العقوبة ولا يزيدوا.
والقول الثالث : أن المقصود من هذه الآية نهي المظلوم عن استيفاء الزيادة من الظالم، وهذا قول مجاهد والنخعي وابن سيرين قال ابن سيرين : إن أخذ منك رجل شيئاً فخذ منه مثله، وأقول : إن حمل هذه الآية على قصة لا تعلق لها بما قبلها يوجب حصول سوء الترتيب في كلام الله تعالى وذلك يطرق الطعن إليه وهو في غاية البعد، بل الأصوب عندي أن يقال : المراد أنه تعالى أمر محمداً صلى الله عليه وسلّم أن يدعو الخلق إلى الدين الحق بأحد الطرق الثلاثة وهي الحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالطريق الأحسن، ثم إن تلك الدعوة تتضمن أمرهم بالرجوع عن دين آبائهم وأسلافهم، وبالإعراض عنه والحكم عليه بالكفر والضلالة وذلك مما يشوش القلوب ويوحش الصدور، ويحمل أكثر المستعمين على قصد ذلك الداعي بالقتل تارة، وبالضرب ثانياً وبالشتم ثالثاً، ثم إن ذلك المحق إذا شاهد تلك السفاهات، وسمع تلك المشاغبات لا بد وأن يحمله طبعه على تأديب أولئك السفهاء تارة بالقتل وتارة بالضرب، فعند هذا أمر المحقين في هذا المقام برعاية العدل والإنصاف وترك الزيادة، فهذا هو الوجه الصحيح الذي يجب حمل الآية عليه.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٩١
فإن قيل : فهل تقدحون فيما روي أنه عليه السلام ترك العزم على المثلة وكفر عن يمينه بسبب هذه الآية ؟
قلنا : لا حاجة إلى القدح في تلك الرواية، لأنا نقول : تلك الواقعة داخلة في عموم هذه الآية فيمكن التمسك في تلك الواقعة بعموم هذه الآية، إنما الذي ينازع فيه أنه لا يجوز قصر هذه الآية على هذه الواقعة، لأن ذلك يوجب سوء الترتيب في كلام الله تعالى.
المسألة الثالثة : اعلم أنه تعالى أمر برعاية العدل والإنصاف في هذه الآية ورتب ذلك على أربع مراتب :
المرتبة الأولى : قوله :﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِه ﴾ يعني إن رغبتم في استقباء القصاص فاقنعوا بالمثل ولا تزيدوا عليه، فإن استيفاء الزيادة ظلم والظلم ممنوع منه في عدل الله ورحمته وفي قوله :﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِه ﴾ دليل على أن الأولى له أن لا يفعلن، كما أنك إذا قلت للمريض : إن كنت تأكل الفاكهة فكل التفاح، كان معناه أن الأولى بك أن لا تأكله/ فذكر تعالى بطريق الرمز والتعريض على أن الأولى تركه.
والمرتبة الثانية : الانتقال من التعريض إلى التصريح وهو قوله :﴿وَلَـاـاِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّـابِرِينَ﴾ وهذا تصريح بأن الأولى ترك ذلك الانتقام، لأن الرحمة أفضل من القسوة والإنفاع أفضل من الإيلام.


الصفحة التالية
Icon