والجواب عن الشبهة الثانية : ما ذكره الله تعالى وهو قوله :﴿لِنُرِيَه مِنْ ءَايَـاتِنَآ ﴾ وهذا كلام مجمل وفي تفصيله وشرحه وجوه : الأول : أن خيرات الجنة عطيمة، وأهوال النار شديدة، فلو أنه عليه الصلاة والسلام ما شاهدهما في الدنيا، ثم شاهدهما في ابتداء يوم القيامة فربما رغب في خيرات الجنة أو خاف من أهوال النار، أما لما شاهدهما في الدنيا في ليلة المعراج فحينئذ لا يعظم وقعهما في قلبه يوم القيامة فلا يبقى مشغول القلب بهما، وحينئذ يتفرغ للشفاعة. الثاني : لا يمتنع أن تكون مشاهدته ليلة المعراج للأنبياء والملائكة، صارت سبباً لتكامل مصلحته أو مصلحتهم. الثالث : أنه لا يبعد أنه إذا صعد الفلك وشاهد أحوال السموات والكرسي والعرش، صارت مشاهدة أحوال هذا العالم وأهواله حقيرة في عينه، فتحصل له زيادة قوة في القلب باعتبارها يكون في شروعه في الدعوة إلى الله تعالى أكمل وقلة التفاته إلى أعداء الله تعالى أقوى، يبين ذلك أن من عاين قدرة الله تعالى في هذا الباب، لا يكون حاله في قوة النفس وثبات القلب على احتمال المكاره في الجهاد وغيره إلا أضعاف ما يكون عليه حال من لم يعاين.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٩٧
واعلم أن قوله :﴿لِنُرِيَه مِنْ ءَايَـاتِنَآ ﴾ كالدلالة على أن فائدة ذلك الإسراءة مختصة به وعائدة إلى على بسل التعيين.
والجواب عن الشبهة الثالثة : أنا عند الانتهاء إلى تفسير تلك الآية في هذه السورة نبين أن تلك الرؤيا رؤيا عيان لا رؤيا منام.
والجواب عن الشبهة الرابعة : لا اعتراض على الله تعالى في أفعاله فهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، والله أعلم.
المسألة الرابعة : أما العروج إلى السموات وإلى ما فوق العرش، فهذه الآية لا تدل عليه، ومنهم من استدل عليه بأول سورة والنجم، ومنهم من استدل عليه بقوله تعالى :﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ﴾ (الإنشقاق : ١٩) وتفسيرهما مذكور في موضعه، وأما دلالة الحديث فكما سلف والله أعلم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٩٧
٢٩٩
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن الكلام في الآية التي قبل هذه الآية، وفيها انتقل من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة، لأن قوله :﴿سُبْحَـانَ الَّذِى أَسْرَى ﴾ فيه ذكر الله على سبيل الغيبة وقوله :﴿بَـارَكْنَا حَوْلَه لِنُرِيَه مِنْ ءَايَـاتِنَآ ﴾ فيه ثلاثة ألفاظ دالة على الحضور وقوله :﴿إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ يدل على الغيبة وقوله :﴿وَءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ﴾ الخ يدل على الحضور وانتقال الكلام من الغيبة إلى الحضور وبالعكس يسمى صنعة الالتفات.
المسألة الثانية : ذكر الله تعالى في الآية الأولى إكرامه محمداً صلى الله عليه وسلّم بأن أسرى به، وذكر في هذه الآية أنه أكرم موسى عليه الصلاة والسلام قبله بالكتاب الذي آتاه فقال :﴿وَءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ﴾ يعني التوراة :﴿وَجَعَلْنَـاهُ هُدًى﴾ أي يخرجهم بواسطة ذلك الكتاب من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والدين الحق وقوه :﴿أَلا تَتَّخِذُوا مِن دُونِى وَكِيلا﴾ وفيه أبحاث :
البحث الأول : قرأ أبو عمرو :﴿أَلا تَتَّخِذُوا ﴾ بالياء خبراً عن بني إسرائيل والباقون بالتاء على الخطاب، أي قلنا لهم لا تتخذوا.
البحث الثاني : قال أبو علي الفارسي : إن قوله :﴿أَلا تَتَّخِذُوا ﴾ فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أن تكون (أن) ناصبة للفعل فيكون المعنى : وجعلناه هدى لئلا تتخذوا. وثانيها : أن تكون (أن) بمعنى أي التي للتفسير وانصرف الكلام من الغيبة إلى الخطاب في قراءة العامة كما انصرف منها إلى الخطاب. والأمر في قوله :﴿وَانطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا ﴾ (ص : ٦) فكذلك انصرف من الغيبة إلى النهي في قوله :﴿أَلا تَتَّخِذُوا ﴾. وثالثها : أن تكون (أن) زائدة ويجعل تتخذوا على القول المضمر والتقدير : وجعلناه هدى لبني إسرائيل فقلنا لا تتخذوا من دوني وكيلاً.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٩٩
البحث الثالث : قوله :﴿وَكِيلا﴾ أي رباً تكلون أموركم إليه. أقول حاصل الكلام في الآية : أنه تعالى ذكر تشريف محمد صلى الله عليه وسلّم بالإسراء، ثم ذكر عقيبه تشريف موسى عليه الصلاة والسلام بإنزال التوراة عليه، ثم وصف التوراة بكونها هدى، ثم بين أن التوراة إنما كان هدى لاشتماله على النهي عن اتخاذ غير الله وكيلاً، وذلك هو التوحيد، فرجع حاصل الكلام بعد رعاية هذه المراتب أنه لا معراج أعلى ولا درجة أشرف ولا منقبة أعظم من أن يصير المرء غرقاً في بحر التوحيد وأن لا يعول في أمر من الأمور إلا على الله، فإن نطق، نطق بذكر الله، وإن تفكر، تفكر في دلائل تنزيه الله تعالى، وإن طلب طلب من الله، فيكون كله لله وبالله، ثم قال :﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ﴾ وفي نصب ﴿ذُرِّيَّةِ﴾ وجهان :


الصفحة التالية
Icon