الوجه الأول : أن يكون نصباً على النداء يعني : يا ذرية من حملنا مع نوح وهذا قول مجاهد لأنه قال : هذا نداء قال الواحدي : وإنما يصح هذا على قراءة من قرأ بالتاء كأنه قيل لهم : لا تتخذوا من دوني وكيلاً يا ذرية من حملنا مع نوح في السفينة قال قتادة : الناس كلهم ذرية نوح لأنه كان معه في السفينة ثلاثة بنين : سام وحام ويافث فالناس كلهم من ذرية أولئك، فكان قوله : يا ذرية من حملنا مع نوح، قائماً مقام قوله :﴿يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ﴾.
الوجه الثاني : في نصب قوله :﴿ذُرِّيَّةِ﴾ أن الاتخاذ فعل يتعدى إلى مفعولين كقوله :﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا﴾ (النساء : ١٢٥) والتقدير : لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح من دوني وكيلاً، ثم إنه تعالى أثنى على نوح فقال :﴿إِنَّه كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ (الإسراء : ٣) أي كان كثير الشكر، روي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أكل قال :"الحمد لله الذي أطعمني ولو شاء أجاعني" وإذا شرب قال :"الحمد لله الذي أسقاني ولو شاء أظمأني" وإذا اكتسى قال :"الحمد لله الذي كساني ولو شاء أعراني" وإذا احتذى قال :"الحمد لله الذي حذاني ولو شاء أحفاني" وإذا قضى حاجته قال :"الحمد لله الذي أخرج عني أذاه في عافية ولو شاء حبسه" وروي أنه كان إذا أراد الإفطار عرض طعامه على من آمن به فإن وجده محتاجاً آثره به.
فإن قيل : قوله :﴿إِنَّه كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ ما وجه ملايمته لما قبله ؟
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٩٩
قلنا : التقدير كأنه قال : لا تتخذوا من دوني وكيلاً ولا تشركوا بي، لأن نوحاً عليه الصلاة والسلام كان عبداً شكوراً، وإنما يكون العبد شكوراً لو كان موحداً لا يرى حصول شيء من النعم إلا من فضل الله وأنتم ذرية قومه فاقتدوا بنوح عليه السلام، كما أن آباءكم اقتدوا به والله أعلم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٢٩٩
٣٠١
اعلم أنه تعالى لما ذكر إنعامه على بني إسرائيل بإنزال التوراة عليهم، وبأنه جعل التوراة هدى لهم، بين أنهم ما اهتدوا بهداه، بل وقعوا في الفساد فقال :﴿وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِى إسرائيل فِى الْكِتَـابِ لَتُفْسِدُنَّ فِى الارْضِ مَرَّتَيْنِ﴾ وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : القضاء في اللغة عبارة عن قطع الأشياء عن إحكام، ومنه قوله :﴿فَقَضَـاـاهُنَّ سَبْعَ سَمَـاوَاتٍ﴾ (فصلت : ١٢) وقول الشاعر :
وعليهما مسرودتان قضاهما داود
فقوله :﴿وَقَضَيْنَآ﴾ أي أعلمناهم وأخبرناهم بذلك وأوحينا إليهم. ولفظ ﴿إِلَى ﴾ صلة للإيحاء، لأن معنى قضينا أوحينا إليهم كذا. وقوله :﴿لَتُفْسِدُنَّ﴾ يريد المعاصي وخلاف أحكام التوراة وقوله :﴿فِى الارْضِ﴾ يعني أرض مصر وقوله :﴿وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾ يعني أنه يكون استعلاؤكم على الناس بغير الحق استعلاء عظيماً، لأنه يقال لكل متجبر : قد علا وتعظم، ثم قال :﴿فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولَـاهُمَا﴾ يعني أولى المرتين :﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ والمعنى : أنه إذا جاء وعد الفساق في المرة الأولى أرسلنا عليكم قوماً أولى بأس شديد، ونجدة وشدة، والبأس القتال، ومنه قوله تعالى :﴿وَحِينَ الْبَأْسِ ﴾ (البقرة : ١٧٧) ومعنى بعثنا عليكم أرسلنا عليكم، وخلينا بينكم وبينهم خاذلين إياكم، واختلفوا في أن هؤلاء العباد من هم ؟
قيل : إن بني إسرائيل تعظموا وتكبروا واستحلوا المحارم وقتلوا الأنبياء وسفكوا الدماء، وذلك أول الفسادين فسلط الله عليهم بختنصر فقتل منهم أربعين ألفاً ممن يقرأ التوراة وذهب بالبقية إلى أرض نفسه فبقوا هناك في الذل إلى أن قيض الله ملكاً آخر غزا أهل بابل واتفق أن / تزوج بامرأة من بني إسرائيل فطلبت تلك المرأة من ذلك الملك أن يرد بني إسرائيل إلى بيت المقدس ففعل، وبعد مدة قامت فيهم الأنبياء ورجعوا إلى أحسن ما كانوا، فهو قوله :﴿ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ﴾.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٠١
والقول الثاني : إن المراد من قوله :﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ﴾ أن الله تعالى سلط عليهم جالوت حتى أهلكهم وأبادهم وقوله :﴿ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ﴾ هو أنه تعالى قوى طالوت حتى حارب جالوت ونصر داود حتى قتل جالوت فذاك هو عود الكرة.
والقول الثالث : إن قوله :﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ﴾ هو أنه تعالى ألقى الرعب من بني إسرائيل في قلوب المجوس، فلما كثرت المعاصي فيهم أزال ذلك الرعب عن قلوب المجوس فقصدوهم وبالغوا في قتلهم وإفنائهم وإهلاكهم.
واعلم أنه لا يتعلق كثير غرض في معرفة أولئك الأقوام بأعيانهم، بل المقصود هو أنهم لما أكثروا من المعاصي سلط عليهم أقواماً قتلوهم وأفنوهم.


الصفحة التالية
Icon