ثم قال تعالى :﴿فَجَاسُوا خِلَـالَ الدِّيَارِ ﴾ قال الليث : الجوس والجوسان التردد خلال الديار، والبيوت في الفساد، والخلال هو الانفراج بين الشيئين، والديار ديار بيت المقدس، واختلفت عبارات المفسرين في تفسير جاسوا فعن ابن عباس فتشوا وقال أبو عبيدة : طلبوا من فيها. وقال ابن قتيبة : عاثوا وأفسدوا. وقال الزجاج : طافوا خلال الديار هل بقي أحد لم يقتلوه. قال الواحدي : الجوس هو التردد والطلب وذلك محتمل لكل ما قالوه.
ثم قال تعالى :﴿وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولا﴾ أي كان قضاء الله بذلك قضاء جزماً حتماً لا يقبل النقض والنسخ، ثم قال تعالى :﴿ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ﴾ أي أهلكنا أعداءكم ورددنا الدولة والقوة عليكم :﴿وَجَعَلْنَـاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا﴾ النفير العدد من الرجال وأصله من نفر مع الرجل من عشيرته وقومه، والنفير والنافر واحد، كالقدير والقادر، وذكرنا معنى نفر عند قوله :﴿فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ﴾ (التوبة : ١٢٢)وقوله :﴿انْفِرُوا خِفَافًا﴾ (التوبة : ٤١).
المسألة الثانية ؛ احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في مسألة القضاء والقدر من وجوه : الأول : أنه تعالى قال :﴿وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِى إسرائيل فِى الْكِتَـابِ لَتُفْسِدُنَّ فِى الارْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾ وهذا القضاء أقل احتمالاته الحكم الجزم، والخبر الحتم، فثبت أنه تعالى أخبر عنهم أنهم سيقدمون على الفساد والمعاصي خبراً جزماً لا يقبل النسخ، لأن القضاء معناه الحكم الجزم على ما شرحناه. ثم إنه تعالى أكد ذلك القضاء مزيد تأكيد فقال :﴿وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولا﴾.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٠١
إذا ثبت هذا فنقول : عدم وقوع ذلك الفساد عنهم يستلزم انقلاب خبر الله تعالى الصدق كذباً وانقلاب حكمه الجازم باطلاً، وانقلاب علمه الحق جهلاً، وكل ذلك محال، فكان عدم إقدامهم على ذلك الفساد محالاً، فكان إقدامهم عليه واجباً ضرورياً لا يقبل النسخ والرفع، مع أنهم كلفوا بتركه ولعنوا على فعله، وذلك يدل على قولنا : إن الله قد يأمر بشيء ويصد عنه وقد ينهى عن شيء ويقضي بتحصيله، فهذا أحد وجوه الاستدلال بهذه الآية.
الوجه الثاني : في الاستدلال بهذه الآية قوله تعالى :﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ والمراد أولئك الذين تسلطوا على بني إسرائيل بالقتل والنهب والأسر، فبين تعالى أنه هو الذي بعثهم على بني إسرائيل، ولا شك أن قتل بني إسرائيل ونهب أموالهم وأسر أولادهم كان مشتملاً على الظلم الكثير والمعاصي العظيمة. ثم إنه تعالى أضاف كل ذلك إلى نفسه بقوله :﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنا بَعْدِه رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِالْبَيِّنَـاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِه مِن قَبْلُا كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ﴾ وذلك يدل على أن الخير والشر والطاعة والمعصية من الله تعالى.
أجاب الجبائي عنه من وجهين : الأول : المراد من ﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ﴾ هو أنه تعالى أمر أولئك الأقوام بغزو بني إسرائيل لما ظهر فيهم من الفساد، فأضيف ذلك الفعل إلى الله تعالى من حيث الأمر. والثاني : أن يكون المراد خلينا بينهم وبين بني إسرائيل، وما ألقينا الخوف من بني إسرائيل في قلوبهم. وحاصل الكلام أن المراد من هذا البعث التخلية وعدم المنع.
واعلم أن الجواب الأول ضعيف ؛ لأن الذين قصدوا تخريب بيت المقدس وإحراق التوراة وقتل حفاظ التوراة لا يجوز أن يقال إنهم فعلوا ذلك بأمر الله تعالى. والجواب الثاني أيضاً ضعيف، لأن البعث على الفعل عبارة عن التقوية عليه وإلقاء الدواعي القوية في القلب، وأما التخلية فعبارة عن عدم المنع، والأول فعل، والثاني ترك، فتفسير البعث بالتخلية تفسير لأحد الضدين بالآخر وأنه لا يجوز، فثبت صحة ما ذكرناه والله أعلم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٠١
٣٠٣
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى حكى عنهم أنهم لما عصوا سلط عليهم أقواماً قصدوهم بالقتل والنهب والسبي، ولما تابوا أزال عنهم تلك المحنة وأعاد عليهم الدولة، فعند ذلك ظهر أنهم إن أطاعوا فقد أحسنوا إلى أنفسهم، وإن أصروا على المعصية فقد أساؤا إلى أنفسهم، وقد تقرر في العقول أن الإحسان إلى النفس حسن مطلوب، وأن الإساءة إليها قبيحة، فلهذا المعنى قال تعالى :﴿إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لانفُسِكُم وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾.
المسألة الثانية ؛ قال الواحدي : لا بد ههنا من إضمار، والتقدير : وقلنا إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم، والمعنى : إن أحسنتم بفعل الطاعات فقد أحسنتم إلى أنفسكم من حيث إن ببركة تلك الطاعات يفتح الله عليكم أبواب الخيرات والبركات، وإن أسأتم بفعل المحرمات أسأتم إلى أنفسكم من حيث إن بشؤم تلك المعاصي يفتح الله عليكم أبواب العقوبات.


الصفحة التالية
Icon