النوع الرابع : قوله :﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ والمقصود منه المبالغة في التواضع، / وذكر القفال رحمه الله في تقريره وجهين : الأول : أن الطائر إذا أراد ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحه، ولهذا السبب صار خفض الجناح كناية عن حسن التربية، فكأنه قال للولد : اكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك بك حال صغرك. والثاني : أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه وإذا أراد ترك الطيران وترك الارتفاع خفض جناحه. فصار خفض الجناح كناية عن فعل التواضع من هذا الوجه.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٢٨
فإن قيل : كيف أضاف الجناح إلى الذل والذل لا جناح له ؟
قلنا : فيه وجهان : الأول : أنه أضيف الجناح إلى الذل كما يقال : حاتم الجود فكما أن المراد هناك حاتم الجواد فكذلك ههنا المراد، واخفض لهما جناحك الذليل، أي المذلول. والثاني : أن مدار الاستعارة على الخيالات فههنا تخيل للذل جناحاً وأثبت لذلك الجناح ضعفاً تكميلاً لأمر هذه الاستعارة كما قال لبيد :
إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
فأثبت للشمال يداً ووضع زمامها في يد الشمال فكذا ههنا وقوله :﴿مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ معناه : ليكن خفض جناحك لهما بسبب فرط رحمتك لهما وعطفك عليهما بسبب كبرهما وضعفهما.
والنوع الخامس : قوله :﴿وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا﴾ وفيه مباحث :
البحث الأول : قال القفال رحمه الله تعالى : إنه لم يقتصر في تعليم البر بالوالدين على تعليم الأقوال بل أضاف إليه تعليم الأفعال وهو أن يدعو لهما بالرحمة فيقول :﴿رَّبِّ ارْحَمْهُمَا﴾ ولفظ الرحمة جامع لكل الخيرات في الدين والدنيا. ثم يقول :﴿كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا﴾ يعين رب افعل بهما هذا النوع من الإحسان كما أحسنا إلي في تربيتهما إياي، والتربية هي التنمية، وهي من قولهم ربا الشيء إذا انتفع، ومنه قوله تعالى :﴿فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ﴾ (فصلت : ٣٩).
البحث الثاني : اختلف المفسرون في هذه الآية على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أنها منسوخة بقوله تعالى :﴿مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ﴾ (التوبة : ١١٣) فلا ينبغي للمسلم أن يستغفر لوالديه إذا كانا مشركين، ولا يقول : رب ارحمهما.
والقول الثاني : أن هذه الآية غير منسوخة، ولكنها مخصوصة في حق المشركين، وهذا أولى من القول الأول لأن التخصيص أولى من النسخ.
والقول الثالث : أنه لا نسخ ولا تخصيص لأن الوالدين إذا كانا كافرين فله أن يدعو لهما بالهداية والإرشاد، وأن يطلب الرحمة لهما بعد حصول الإيمان.
البحث الثالث : ظاهر الأمر للوجوب فقوله :﴿وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا﴾ أمر وظاهر الأمر لا يفيد التكرار فيكفي في العمل بمقتضى هذه الآية ذكر هذا القول مرة واحدة، سئل سفيان : كم يدعو الإنسان لوالديه ؟
أفي اليوم مرة أو في الشهر أو في السنة ؟
فقال : نرجو أن نجزئه إذا دعا لهما في أواخر التشهدات كما أن الله تعالى قال :﴿النَّبِىِّا يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ﴾ (الأحزاب : ٥٦) فكانوا يرون أن التشهد يجزي عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم، وكما أن الله تعالى قال :﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ﴾ (البقرة : ٢٠٣) فهم يكررون في أدبار الصلوات.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٢٨
ثم قال تعالى :﴿رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُم إِن تَكُونُوا صَـالِحِينَ﴾ والمعنى أنا قد أمرناكم في هذه الآية بإخلاص العبادة لله تعالى وبالإحسان بالوالدين، ولا يخفى على الله ما تضمرونه في أنفسكم من الإخلاص في الطاعة وعدم الإخلاص فيها، فاعلموا أن الله تعالى مطلع على ما في نفوسكم بل هو أعلم بتلك الأحوال منكم بها، لأن علوم البشر قد يختلط بها السهو والنسيان وعدم الإحاطة بالكل، فأما علم الله فمنزه عن كل هذه الأحوال، وإذا كان الأمر كذلك كان عالماً بكل ما في قلوبكم والمقصود منه التحذير عن ترك الإخلاص.


الصفحة التالية
Icon