ثم قال تعالى :﴿إِن تَكُونُوا صَـالِحِينَ﴾ أي إن كنتم برآء عن جهات الفساد في أحوال قلوبكم كنتم أوابين، أي رجاعين إلى الله منقطعين إليه في كل الأعمال وسنة الله وحكمه في الأوابين أنه غفور لهم يكفر عنهم سيآتهم، والأواب هو الذي من عادته وديدنه الرجوع إلى أمر الله تعالى والالتجاء إلى فضله ولا يلتجىء إلى شفاعة شفيع كما يفعله المشركون الذين يعبدون من دون الله جماداً يزعمون أنه يشفع لهم، ولفظ الأواب على وزن فعال، وهو يفيد المداومة والكثرة كقولهم : قتال وضراب والمقصود من هذه الآية أن الآية الأولى لما دلت على وجوب تعظيم الوالدين من كل الوجوه ثم إن الولد قد يظهر منه نادرة مخلة بتعظيمهما فقال :﴿رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ ﴾ يعني أنه تعالى عالم بأحوال قلوبكم فإن كانت تلك الهفوة ليست لأجل العقوق بل ظهرت بمقتضى الجبلة البشرية كانت في محل الغفران والله أعلم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٢٨
٣٢٩
اعلم أن هذا هو النوع الرابع من أعمال الخير والطاعة المذكورة في هذه الآيات وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قوله :﴿وَءَاتِ﴾ خطاب مع من ؟
فيه قولان :
القول الأول : أنه خطاب للرسول صلى الله عليه وسلّم فأمره الله أن يؤتي أقاربه الحقوق التي وجبت لهم في الفيء والغنيمة، وأوجب عليه أيضاً إخراج حق المساكين وأبناء السبيل أيضاً من هذين المثالين.
والقول الثاني : أنه خطاب للكل والدليل عليه أنه معطوف على قوله :﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ﴾ (الإسراء : ٢٣) والمعنى : أنك بعد فراغك من بر الوالدين، يجب أن تشتغل ببر سائر الأقارب الأقرب فالأقرب، ثم بإصلاح أحوال المساكين وأبناء السبيل.
واعلم أن قوله تعالى :﴿وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّه ﴾ مجمل وليس فيه بيان أن ذلك الحق ما هو ؟
وعند الشافعي رحمه الله أنه لا يجب الانفاق إلا على الولد والوالدين، وقال قوم : يجب الإنفاق على المحارم بقدر الحاجة واتفقوا على أن من لم يكن من المحارم كأبناء العم فلا حق لهم إلا الموادة والزيارة وحسن المعاشرة والمؤالفة في السراء والضراء. أما المسكين وابن السبيل فقد تقدم وصفهما في سورة التوبة في تفسير آية الزكاة. ويجب أن يدفع إلى المسكين ما يفي بقوته وقوت عياله، وأن يدفع إلى ابن السبيل ما يكفيه من زاده وراحلته إلى أن يبلغ مقصده.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٢٩
ثم قال تعالى :﴿وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾ والتبذير في اللغة إفساد المال وإنفاقه في السرف. قال عثمان بن الأسود : كنت أطوف في المساجد مع مجاهد حول الكعبة فرفع رأسه إلى أبي قبيس وقال : لو أن رجلاً أنفق مثل هذا في طاعة الله لم يكن من المسرفين، ولو أنفق درهماً واحداً في معصية الله كان من المسرفين. وأنفق بعضهم نفقة في خير فأكثر فقيل له لا خير في السرف فقال : لا سرف في الخير، وعن عبد الله بن عمر قال : مر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بسعد وهو يتوضأ فقال : ما هذا السرف يا سعد ؟
فقال : أو في الوضوء سرف ؟
قال : نعم : وإن كنت على نهر جارٍ ثم نبه تعالى على قبح التبذير بإضافته إياه إلى أفعال الشياطين فقال :﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَـاطِينِ ﴾ والمراد من هذه الأخوة التشبه بهم في هذا الفعل القبيح، وذلك لأن العرب يسمون الملازم للشيء أخاً له، فيقولون : فلان أخو الكرم والجود، وأخو السفر إذا كان مواظباً على هذه الأعمال، وقيل قوله :﴿إِخْوَانَ الشَّيَـاطِينِ ﴾ أي قرناءهم في الدنيا والآخرة كما قال :﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَـن ِ نُقَيِّضْ لَه شَيْطَـانًا فَهُوَ لَه قَرِينٌ﴾ (الأعراف : ٣٦) وقال تعالى :﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ﴾ (الصافات : ٢٢) أي قرناءهم من الشياطين، ثم إنه تعالى بين صفة الشيطان فقال :﴿وَكَانَ الشَّيْطَـانُ لِرَبِّه كَفُورًا﴾ ومعنى كون الشيطان كفوراً لربه، هو أنه يستعمل بدنه في المعاصي والإفساد في الأرض، والإضلال للناس. وكذلك كل من رزقه الله تعالى مالاً أو جاهاً فصرفه إلى غير مرضاة الله تعالى كان كفوراً لنعمة الله تعالى، والمقصود : أن المبذرين إخوان الشياطين، بمعنى كونهم موافقين للشياطين في الصفة والفعل/ ثم الشيطان كفور لربه فيلزم كون المبذر أيضاً كفوراً لربه، وقال بعض العلماء : خرجت هذه الآية على وفق عادة العرب وذلك لأنهم كانوا يجمعون الأموال بالنهب والغارة ثم كانوا ينفقونها في طلب الخيلاء والتفاخر، وكان المشركون من قريش وغيرهم ينفقون أموالهم ليصدوا الناس عن الإسلام وتوهين أهله، وإعانة أعدائه فنزلت هذه الآية تنبيهاً على قبح أعمالهم في هذا الباب.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٢٩


الصفحة التالية
Icon