ثم قال تعالى :﴿وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا﴾ والمعنى : أنك إن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل حياء من التصريح بالرد بسبب الفقر والقلة :﴿فَقُل لَّهُمْ قَوْلا مَّيْسُورًا﴾ أي سهلاً ليناً وقوله :﴿ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا﴾ كناية عن الفقر، لأن فاقد المال يطلب رحمة الله وإحسانه. فلما كان فقد المال سبباً لهذا الطلب ولهذا الابتغاء أطلق اسم السبب على المسبب فسمى الفقر بابتغاء رحمة الله تعالى، والمعنى : أن عند حصول الفقر والقلة لا تترك تعهدهم بالقول الجميل والكلام الحسن، بل تعدهم بالوعد الجميل وتذكر لهم العذر وهو حصول القلة وعدم المال، أو تقول لهم : الله يسهل، وفي تفسير القول الميسور وجوه : الأول : القول الميسور هو الرد بالطريق الأحسن. والثاني : القول الميسور اللين السهل قال الكسائي : يسرت أيسر له القول أي لينته له. الثالث : قال بعضهم : القول الميسور مثل قوله :﴿قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى ﴾ (البقرة : ٣٦٣) قالوا : والميسور هو المعروف، لأن القول المتعارف لا يحوج إلى تكلف، والله أعلم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٢٩
٣٣٠
اعلم أنه تعالى لما أمره بالانفاق في الآية المتقدمة علمه في هذه الآية أدب الإنفاق، واعلم أنه تعالى شرح وصف عبادة المؤمنين في الإنفاق في سورة الفرقان فقال :﴿وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَالِكَ قَوَامًا﴾ (الفرقان : ٦٧) فههنا أمر رسوله بمثل ذلك الوصف فقال :﴿وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ﴾ أي لا تمسك عن الإنفاق بحيث تضيق على نفسك وأهلك في وجوه صلة الرحم وسبيل الخيرات، والمعنى : لا تجعل يدك في انقباضها كالمغلولة الممنوعة من الانبساط :﴿وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ أي ولا تتوسع في الإنفاق توسعاً مفرطاً بحيث لا يبقى في يدك شيء. وحاصل الكلام : أن الحكماء ذكروا في كتب "الأخلاق" أن لكل خلق طرفي إفراط وتفريط وهما مذمومان، فالبخل إفراط في الإمساك، والتبذير إفراط في الإنفاق وهما مذمومان، والخلق الفاضل هو العدل والوسط كما قال تعالى :﴿وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾.
ثم قال تعالى :﴿فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا﴾ أما تفسير تقعد، فقد سبق في الآية المتقدمة. وأما كونه ملوماً فلأنه يلوم نفسه. وأصحابه أيضاً يلومونه على تضييع المال بالكلية وإبقاء الأهل والولد في الضر والمحنة، وأما كونه محسوراً فقال الفراء : تقول العرب للبعير : هو محسور إذا انقطع سيره وحسرت الدابة إذا سيرها حتى ينقطع سيرها، ومنه قوله تعالى :﴿يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ (الملك : ٤) وجمع الحسير حسرى مثل قتلى وصرعى، وقال القفال : المقصود تشبيه حال من أنفق كل ماله ونفقاته بمن انقطع في سفره بسبب انقطاع مطيته، لأن ذلك المقدار من المال كأنه مطية يحمل الإنسان ويبلغه إلى آخر الشهر أو السنة، كما أن ذلك البعير يحمله ويبلغه إلى آخر المنزل فإذا انقطع ذلك البعير بقي في وسط الطريق عاجزاً متحيراً فكذلك إذا أنفق الإنسان مقدار ما يحتاج إليه في مدة شهر بقي في وسط ذلك الشهر عاجزاً متحيراً ومن فعل هذا لحقه اللوم من أهله والمحتاجين إلى إنفاقه عليهم بسبب سوء تدبيره وترك الحزم في مهمات معاشه.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٣٠
ثم قال تعالى :﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ ﴾ والمقصود أنه عرف رسوله صلى الله عليه وسلّم كونه رباً. والرب هو الذي يربي المربوب ويقوم بإصلاح مهماته ودفع حاجاته على مقدار الصلاح والصواب فيوسع الرزق على البعض ويضيقه على البعض. والقدر في اللغة التضييق، ومنه قوله تعالى :﴿وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُه ﴾ (الطلاق : ٧) وقوله تعالى :﴿وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلَـاـاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَه ﴾ (الفجر : ١٦) أي ضيق وإنما وسع على البعض لأن ذلك هو الصلاح لهم قال تعالى :﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِه لَبَغَوْا فِى الارْضِ وَلَـاكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ ﴾ (الشورى : ٢٧).
ثم قال تعالى :﴿إِنَّه كَانَ بِعِبَادِه خَبِيرَا بَصِيرًا﴾ يعنى أنه تعالى عالم بأن مصلحة كل إنسان في أن لا يعطيه إلا ذلك القدر، فالتفاوت في أرزاق العباد ليس لأجل البخل، بل لأجل رعاية المصالح.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٣٠


الصفحة التالية
Icon