إذا عرفت هذا فنقول : الزنا اشتمل على أنواع من المفاسد : أولها : اختلاط الأنساب واشتباهها فلا يعرف الإنسان أن الولد الذي أتت به الزانية أهو منه أو من غيره، فلا يقوم بتربيته ولا يستمر في تعهده، وذلك يوجب ضياع الأولاد، وذلك يوجب انقطاع النسل وخراب العالم. وثانيها : أنه إذا لم يوجد سبب شرعي لأجله يكون هذا الرجل أولى بهذه المرأة من غيره لم يبق في حصول ذلك الاختصاص إلا التواثب والتقاتل، وذلك يفضي إلى فتح باب الهرج والمرج والمقاتلة، وكم سمعنا وقوع القتل الذريع بسبب إقدام المرأة الواحدة على الزنا. وثالثها : أن المرأة إذا باشرت الزنا وتمرنت عليه يستقذرها كل طبع سليم، وكل خاطر مستقيم، وحينئذ لا تحصل الألفة والمحبة ولا يتم السكن والإزدواج، ولذلك فإن المرأة إذا اشتهرت بالزنا تنفر عن مقارنتها طباع أكثر الخلق. ورابعها : أنه إذا انفتح باب الزنا فحينئذ لا يبقى لرجل اختصاص بامرأة، وكل رجل يمكنه التواثب على كل امرأة شاءت وأرادت. وحينئذ لا يبقى بين نوع الإنسان وبين سائر البهائم فرق في هذا الباب. وخامسها : أنه ليس المقصود من المرأة مجرد قضاء الشهوة بل أن تصير شريكة للرجل في ترتيب المنزل وإعداد مهماته من المطعوم والمشروب والملبوس، وأن تكون ربة البيت وحافظة للباب وأن تكون قائمة بأمور الأولاد والعبيد، وهذه المهمات لا تتم إلا إذا كانت مقصورة الهمة على هذا الرجل الواحد منقطعة الطمع عن سائر الرجال، وذلك لا يحصل إلا بتحريم الزنا وسد هذا الباب بالكلية. وسادسها : أن الوطء يوجب الذل الشديد، والدليل عليه أن أعظم أنواع الشتم عند الناس ذكر ألفاظ الوقاع، ولولا أن الوطء يوجب الذل، وإلا لما كان الأمر كذلك، وأيضاً فإن جميع العقلاء لا يقدمون على الوطء إلا في المواضع المستورة، وفي الأوقات التي لا يطلع عليهم أحد/ وأن جميع العقلاء يستنكفون عن ذكر أزواج بناتهم وأخواتهم وأمهاتهم لما يقدمون على وطئهن، ولولا أن الوطء ذل، وإلا لما كان كذلك.
وإذا ثبت هذا فنقول : لما كان الوطء ذلاً كان السعي في تقليله موافقاً للعقول، فاقتصار المرأة الواحدة على الرجل الواحد سعى في تقليل ذلك العمل، وأيضاً ما فيه من الذل يصير مجبوراً بالمنافع / الحاصلة في النكاح، أما الزنا فإنه فتح باب لذلك العمل القبيح ولم يصر مجبوراً بشيء من المنافع فوجب بقاؤه على أصل المنع والحجر، فثبت بما ذكرنا أن العقول السليمة تقضي على الزنا بالقبح.
وإذا ثبت هذا فنقول : إنه تعالى وصف الزنا بصفات ثلاثة كونه فاحشة، ومقتاً في آية أخرى :﴿وَسَآءَ سَبِيلا﴾ أما كونه فاحشة فهو إشارة إلى اشتماله على فساد الأنساب الموجبة لخراب العالم وإلى اشتماله على التقاتل والتواثب على الفروج وهو أيضاً يوجب خراب العالم. وأما المقت : فقد ذكرنا أن الزانية تصير ممقوتة مكروهة، وذلك يوجب عدم حصول السكن والازدواج وأن لا يعتمد الإنسان عليها في شيء من مهماته ومصالحه. وأما أنه ساء سبيلاً، فهو ما ذكرنا أنه لا يبقى فرق بين الإنسان وبين البهائم في عدم اختصاص الذكران بالإناث، وأيضاً يبقى ذل هذا العمل وعيبه وعاره على المرأة من غير أن يصير مجبوراً بشيء من المنافع، فقد ذكرنا في قبح الزنا ستة أوجه ؛ والله تعالى ذكر ألفاظاً ثلاثة، فحملنا كل واحد من هذه الألفاظ الثلاثة على وجهين من تلك الوجوه الستة، والله أعلم بمراده.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٣٣
٣٣٦
هذا هو النوع الثاني مما نهى الله عنه في هذه الآية، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لقائل أن يقول : إن أكبر الكبائر بعد الكفر بالله القتل، فما السبب في أن الله تعالى بدأ أولاً بذكر النهي عن الزنا وثانياً بذكر النهي عن القتل.
وجوابه : أنا بينا أن فتح باب الزنا يمنع من دخول الإنسان في الوجود، والقتل عبارة عن إبطال الإنسان بعد دخوله في الوجود. ودخوله في الوجود مقدم على إبطاله وإعدامه بعد وجوده، فلهذا السبب ذكر الله تعالى الزنا أولاً ثم ذكر القتل ثانياً.


الصفحة التالية
Icon