واعلم أن على القول الأول والثاني ظهر أن المقتول وولي دمه يكونان منصورين من عند الله تعالى وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : قلت لعلي بن أبي طالب عليه السلام وأيم الله ليظهرن عليكم ابن أبي سفيان، لأن الله تعالى يقول :﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّه سُلْطَـانًا﴾ وقال / الحسن : والله ما نصر معاوية على علي عليه السلام إلا بقول الله تعالى :﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّه سُلْطَـانًا﴾ والله أعلم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٣٦
٣٣٧
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من الأشياء التي نهى الله عنها في هذه الآيات.
اعلم أنا ذكرنا أن الزنا يوجب اختلاط الأنساب. وذلك يوجب منع الاهتمام بتربية الأولاد وذلك يوجب انقطاع النسل، وذلك يوجب المنع من دخول الناس في الوجود، وأما القتل فهو عبارة عن إعدام الناس بعد دخولهم في الوجود، فثبت أن النهي عن الزنا والنهي عن القتل يرجع حاصله إلى النهي عن إتلاف النفوس، فلما ذكر الله تعالى ذلك أتبعه بالنهي عن إتلاف الأموال، لأن أعز الأشياء بعد النفوس الأموال، وأحق الناس بالنهي عن إتلاف أموالهم هو اليتيم، لأنه لصغره وضعفه وكمال عجزه يعظم ضرره بإتلاف ماله، فلهذا السبب خصهم الله تعالى بالنهي عن إتلاف أموالهم فقال :﴿وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ﴾ ونظيره قوله تعالى :﴿وَلا تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا ا وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْا وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ (النساء : ٦) وفي تفسير قوله :﴿إِلا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ﴾ وجهان : الأول : إلا بالتصرف الذي ينميه ويكثره. الثاني : المراد هو أن تأكل معه إذا احتجت إليه، وروى مجاهد عن ابن عباس قال : إذا احتاج أكل بالمعروف فإذا أيسر قضاه، فإن لم يوسر فلا شيء عليه.
واعلم أن الولي إنما تبقى ولايته على اليتيم إلى أن يبلغ أشده وهو بلوغ النكاح، كما بينه الله تعالى في آية أخرى وهو قوله :﴿وَابْتَلُوا الْيَتَـامَى حَتَّى ا إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ ءَانَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ﴾ (النساء : ٦) والمراد بالأشد بلوغه إلى حيث يمكنه بسبب عقله ورشده القيام بمصالح ماله، وعند ذلك تزول ولاية غيره عنه وذلك حد البلوغ، فأما إذا بلغ غير كامل العقل لم تزل الولاية عنه والله أعلم. وبلوغ العقل هو أن يكمل عقله وقواه الحسية والحركية والله أعلم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٣٧
٣٣٨
اعلم أنه تعالى أمر بخمسة أشياء أولاً، ثم أتبعه بالنهي عن ثلاثة أشياء وهي النهي عن الزنا، وعن القتل إلا بالحق، وعن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، ثم أتبعه بهذه الأوامر الثلاثة فالأول قوله :﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ﴾.
واعلم أن كل عقد تقدم لأجل توثيق الأمر وتوكيده فهو عهد فقوله :﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ﴾ نظير لقوله تعالى :﴿عَلِيمُ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ (المائدة : ١) فدخل في قوله :﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ كل عقد من العقود كعقد البيع والشركة، وعقد اليمين والنذر، وعقد الصلح، وعقد النكاح. وحاصل القول فيه : أن مقتضى هذه الآية أن كل عقد وعهد جرى بين إنسانين فإنه يجب عليهما الوفاء بمقتضى ذلك العقد والعهد، إلا إذا دل دليل منفصل على أنه لا يجب الوفاء به فمقتضاه الحكم بصحة كل بيع وقع التراضي به وبصحة كل شركة وقع التراضي بها، ويؤكد هذا النص بسائر الآيات الدالة على الوفاء بالعهود والعقود كقوله :﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَـاهَدُوا ﴾ (البقرة : ١٧٧) وقوله :﴿وَالَّذِينَ هُمْ لامَـانَـاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ (المؤمنون : ٨) وقوله :﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ﴾ (البقرة : ٢٧٥) وقوله :﴿لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَـاطِلِ إِلا أَن تَكُونَ تِجَـارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ ﴾ (النساء : ٢٩) وقوله :﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ﴾ (البقرة : ٢٨٢) وقوله عليه السلام :"لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيبة من نفسه" وقوله :"إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يداً بيد" وقوله :"من اشترى شيئاً لم يره فهو بالخيار إذا رآه" فجميع هذه الآيات والأخبار دالة على أن الأصل في البيوعات والعهود والعقود الصحة ووجوب الالتزام.
إذا ثبت هذا فنقول : إن وجدنا نصاً أخص من هذه النصوص يدل على البطلان والفساد قضينا به تقديماً للخاص على العام، وإلا قضينا بالصحة في الكل، وأما تخصيص النص بالقياس فقد أبطلناه، وبهذا الطريق تصير أبواب المعاملات على طولها وأطنابها مضبوطة معلومة بهذه الآية الواحدة، ويكون المكلف آمن القلب مطمئن النفس في العمل، لأنه لما دلت هذه النصوص على صحتها فليس بعد بيان الله بيان، وتصير الشريعة مضبوطة معلومة.


الصفحة التالية
Icon