جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٣٨
ثم قال تعالى :﴿إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ﴾ وفيه وجوه : أحدها : أن يراد صاحب العهد كان مسؤلاً فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه كقوله :﴿وَسْـاَلِ الْقَرْيَةَ﴾ (يوسف : ٨٢). وثانيها : أن العهد كان مسؤلا أي مطلوباً يطلب من المعاهد أن لا يضيعه ويفي به. وثالثها : أن يكون هذا تخييلاً كأنه يقال للعهد لم نكثت وهلا وفي بك تبكيتاً للناكث كما يقال للموؤدة :﴿بِأَىِّ ذَنابٍ قُتِلَتْ﴾ (التكوير : ٩) وكقوله :﴿قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمِّىَ إِلَـاهَيْنِ مِن﴾ (المائدة : ١١٦) الآية فالمخاطبة لعيسى عليه السلام والإنكار على غيره.
النوع الثاني : من الأوامر المذكورة في هذه الآية قوله :﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ﴾ والمقصود منه إتمام الكيل وذكر الوعيد الشديد في نقصانه في قوله :﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ (المطففين : ١ ـ ٣).
النوع الثالث : من الأوامر المذكورة في هذه الآية قوله :﴿وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ﴾ فالآية المتقدمة في إتمام الكيل، وهذه الآية في إتمام الوزن، ونظيره قوله تعالى :﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾ (الرحمن : ٩) وقوله :﴿وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِى الارْضِ مُفْسِدِينَ﴾ (هود : ٨٥).
واعلم أن التفاوت الحاصل بسبب نقصان الكيل، والوزن قليل. والوعيد الحاصل عليه شديد عظيم، فوجب على العاقل الاحتراز منه، وإنما عظم الوعيد فيه لأن جميع الناس محتاجون إلى المعاوضات والبيع والشراء، وقد يكون الإنسان غافلاً لا يهتدي إلى حفظ ماله، فالشارع بالغ في المنع من التطفيف والنقصان، سعياً في إبقاء الأموال على الملاك، ومنعاً من تلطيخ النفس بسرقة ذلك المقدار الحقير، والقسطاس في معنى الميزان إلا أنه في العرف أكبر منه، ولهذا اشتهر في ألسنة العامة أنه القبان. وقيل أنه بلسان الروم أو السرياني. والأصح أنه لغة العرب وهو مأخوذ من القسط، وهو الذي يحصل فيه الاستقامة والاعتدال، وبالجملة فمعناه المعتدل الذي لا يميل إلى أحد الجانبين، وأجمعوا على جواز اللغتين فيه، ضم القاف وكسرها، فالكسر قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم والباقون بالضم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٣٨
ثم قال تعالى :﴿ذَالِكَ خَيْرٌ ﴾ أي الإيفاء بالتمام والكمال خير من التطفيف القليل من حيث أن الإنسان يتخلص بواسطته عن الذكر القبيح في الدنيا والعقاب الشديد في الآخرة :﴿وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا﴾ والتأويل ما يؤل إليه الأمر كما قال في موضع آخر :﴿وَخَيْرٌ مَّرَدًّا﴾ (مريم : ٧٦) ﴿وَخَيْرٌ عُقْبًا﴾ (الكهف : ٤٦) ﴿وَخَيْرٌ أَمَلا﴾ (الكهف : ٤٤) وإنما حكم تعالى بأن عاقبة هذا الأمر أحسن العواقب، لأنه في الدنيا إذا اشتهر بالاحتراز عن التطفيف عول الناس عليه ومالت القلوب إليه وحصل له الاستغناء في الزمان القليل، وكم قد رأينا من الفقراء لما اشتهروا عند الناس بالأمانة والاحتراز عن الخيانة أقبلت القلوب عليهم وحصلت الأموال الكثيرة / لهم في المدة القليلة. وأما في الآخرة فالفوز بالثواب العظيم والخلاص من العقاب الأليم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٣٨
٣٤١
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما شرح الأوامر الثلاثة، عاد بعده إلى ذكر النواهي فنهى عن ثلاثة أشياء : أولها : قوله :﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ ﴾ وقوله :﴿تَقْفُ﴾ مأخوذ من قولهم : قفوت أثر فلان أقفو قفواً وقفواً إذا اتبعت أثره، وسميت قافية الشعر قافية لأنها تقفو البيت، وسميت القبيلة المشهورة بالقافة، لأنهم يتبعون آثار أقدام الناس ويستدلون بها على أحوال الإنسان، وقال تعالى :﴿ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ا ءَاثَـارِهِم بِرُسُلِنَا﴾ (الحديد : ٢٧) وسمي القفا قفا لأنه مؤخر بدن الإنسان كأنه شيء يتبعه ويقفوه فقوله :﴿وَلا تَقْفُ﴾ أي ولا تتبع ولا تقتف ما لا علم لك به من قول أو فعل، وحاصله يرجع إلى النهي عن الحكم بما لا يكون معلوماً، وهذه قضية كلية يندرج تحتها أنواع كثيرة، وكل واحد من المفسرين حمله على واحد من تلك الأنواع وفيه وجوه :


الصفحة التالية
Icon