الوجه الأول : المراد نهي المشركين عن المذاهب التي كانوا يعتقدونها في الإلهيات والنبوات بسبب تقليد أسلافهم، لأنه تعالى نسبهم في تلك العقائد إلى اتباع الهوى فقال :﴿إِنْ هِىَ إِلا أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَـانٍا إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الانفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى ﴾ (النجم : ٢٣) وقال في إنكارهم البعث :﴿بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِى الاخِرَةِا بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ﴾ (النمل : ٦٦) وحكي عنهم أنهم قالوا :﴿إِن نَّظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾ (الجاثية : ٣٢) وقال :﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاـاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّه ﴾ (القصص : ٥٠) وقال :﴿وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـاذَا حَلَـالٌ وَهَـاذَا حَرَامٌ﴾ (النحل : ١١٦) الآية وقال :﴿هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآا إِن تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ﴾ (الأنعام : ١٤٨).
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٤١
والقول الثاني : نقل عن محمد بن الحنفية أن المراد منه شهادة الزور، وقال ابن عباس : لا تشهد إلا بما رأته عيناك وسمعته أذناك ووعاه قلبك.
والقول الثالث : المراد منه : النهي عن القذف ورمي المحصنين والمحصنات بالأكاذيب، وكانت عادة العرب جارية بذلك يذكرونها في الهجاء ويبالغون فيه.
والقول الرابع : المراد منه النهي عن الكذب. قال قتادة : لا تقل سمعت ولم تسمع ورأيت ولم تر وعلمت ولم تعلم.
والقول الخامس : أن القفو هو البهت وأصله من القفا، كأنه قول يقال خلفه وهو في معنى الغيبة وهو ذكر الرجل في غيبته بما يسوءه. وفي بعض الأخبار من قفا مسلماً بما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال، واعلم أن اللفظ عام يتناول الكل فلا معنى للتقليد والله أعلم.
المسألة الثانية : احتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا : القياس لا يفيد إلا الظن والظن مغاير للعلم، فالحكم في دين الله بالقياس حكم بغير المعلوم، فوجب أن لا يجوز لقوله تعالى :﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ ﴾.
أجيب عنه من وجوه : الأول : أن الحكم في الدين بمجرد الظن جائز بإجماع الأمة في صور كثيرة : أحدها : أن العمل بالفتوى عمل بالظن وهو جائز. وثانيها : العمل بالشهادة عمل بالظن وأنه جائز. وثالثها : الاجتهاد في طلب القبلة لا يفيد إلا الظن وأنه جائز. ورابعها : قيم المتلفات وأروش الجنايات لا سبيل إليها إلا بالظن وأنه جائز. وخامسها : الفصد والحجامة وسائر المعالجات بناء على الظن وأنه جائز. وسادسها : كون هذه الذبيحة ذبيحة للمسلم مظنون لا معلوم، وبناء الحكم عليه جائز. وسابعها : قال تعالى :﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِه وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَآ﴾ (النساء : ٣٥) وحصول ذلك الشقاق مظنون لا معلوم. وثامنها : الحكم على الشخص المعين بكونه مؤمناً مظنون ثم نبني على هذا الظن أحكاماً كثيرة مثل حصول التوارث ومثل الدفن في مقابر المسلمين وغيرهما. وتاسعها : جميع الأعمال المعتبرة في الدنيا من الأسفار، وطلب الأرباح والمعاملات إلى الآجال المخصوصة والاعتماد على صداقة الأصدقاء وعداوة الأعداء كلها مظنونة وبناء الأمر على تلك الظنون جائز. وعاشرها : قال عليه السلام :"نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر" وذلك تصريح بأن الظن معتبر في هذه الأنواع العشرة فبطل قول من يقول : إنه لا يجوز بناء الأمر على الظن.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٤١
والجواب الثاني : أن الظن قد يسمى بالعلم. والدليل عليه قوله تعالى :﴿إِذَا جَآءَكُمُ الْمُؤْمِنَـاتُ مُهَـاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّا اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَـانِهِنَّا فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَـاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ﴾ (الممتحنة : ١٠) ومن المعلوم أنه إنما يمكن العلم بأيمانهن بناء على اقرارهن، وذلك لا يفيد إلا الظن، فههنا الله تعالى سمى الظن علماً.
والجواب الثالث : أن الدليل القاطع لما دل على وجوب العمل بالقياس، وكان ذلك الدليل دليلاً على أنه متى حصل ظن أن حكم الله في هذه السورة يساوي حكمه في محل النص، / فأنتم مكلفون بالعمل على وفق ذلك الظن، فههنا الظن وقع في طريق الحكم، فأما ذلك الحكم فهو معلوم متيقن.


الصفحة التالية
Icon