الفائدة الأولى ؛ قوله :﴿ذَالِكَ﴾ إشارة إلى كل ما تقدم ذكره من التكاليف وسماها حكمة، وإنما / سماها بهذا الاسم لوجوه : أحدها : أن حاصلها يرجع إلى الأمر بالتوحيد وأنواع الطاعات والخيرات والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة، والعقول تدل على صحتها. فالأتي بمثل هذه الشريعة لا يكون داعياً إلى دين الشيطان بل الفطرة الأصلية تشهد بأنه يكون داعياً إلى دين الرحمن، وتمام تقرير هذا ما نذكره في سورة الشعراء في قوله :﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَـاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾ (الشعراء : ٢٢١، ٢٢٢). وثانيها : أن الأحكام المذكورة في هذه الآيات شرائع واجبة الرعاية في جميع الأديان والملل ولا تقبل النسخ والإبطال، فكانت محكمة وحمكة من هذا الاعتبار. وثالثها : أن الحكمة عبارة عن معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به، فالأمر بالتوحيد عبارة عن القسم الأول وسائر التكاليف عبارة عن تعليم الخيرات حتى يواظب الإنسان عليها ولا ينحرف عنها، فثبت أن هذه الأشياء المذكورة في هذه الآيات عين الحكمة، وعن ابن عباس : أن هذه الآيات كانت في ألواح موسى عليه الصلاة والسلام : أولها :﴿وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ﴾ قال تعالى :﴿وَكَتَبْنَا لَه فِى الالْوَاحِ مِن كُلِّ شَىْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِّكُلِّ شَىْءٍ﴾ (الأعراف : ١٤٥).
والفائدة الثانية : من فوائد هذه الآية أنه تعالى بدأ في هذه التكاليف بالأمر بالتوحيد، والنهي عن الشرك وختمها بعين هذا المعنى، والمقصود منه التنبيه على أن أول كل عمل وقول وفكر وذكر يجب أن يكون ذكر التوحيد، وآخره يجب أن يكون ذكر التوحيد، تنبيهاً على أن المقصود من جميع التكاليف هو معرفة التوحيد والاستغراق فيه، فهذا التكرير حسن موقعه لهذه الفائدة العظيمة ثم إنه تعالى ذكر في الآية الأولى أن الشرك يوجب أن يكون صاحبه مذموماً مخذولاً، وذكر في الآية الأخيرة أن الشرك يوجب أن يلقي صاحبه في جهنم ملوماً مدحوراً، فاللوم والخذلان يحصل في الدنيا، وإلقاؤه في جهنم يحصل يوم القيامة ويجب علينا أن نذكر الفرق بين المذموم المخذول، وبين الملوم المدحور. فنقول : أما الفرق بين المذموم وبين الملوم، فهو أن كونه مذموماً معناه : أن يذكر له أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر، فهذا معنى كونه مذموماً، وإذا ذكر له ذلك فبعد ذلك يقال له لم فعلت مثل هذا الفعل، وما الذي حملك عليه، وما استفدت من هذا لعمل إلا إلحاق الضرر بنفسك، وهذا هو اللوم. فثبت أن أول الأمر هو أن يصير مذموماً، وآخره أن يصير ملوماً، وأما الفرق بين المخذول وبين المدحور فهو أن المخذول عبارة عن الضعيف يقال : تخاذلت أعضاؤه أي ضعفت، وأما المدحور فهو المطرود. والطرد عبارة عن الاستخفاف والإهانة قال تعالى :﴿وَيَخْلُدْ فِيه مُهَانًا﴾ فكونه مخذولاً عبارة عن ترك إعانته وتفويضه إلى نفسه، وكونه مدحوراً عبارة عن إهانته والاستخفاف به، فثبت أن أول الأمر أن يصير مخذولاً، وآخره أن يصير مدحوراً والله أعلم بمراده.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٤٥
وأما قوله :﴿أَفَأَصْفَـاـاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الملائكة إِنَـاثًا ﴾ فاعلم أنه تعالى لما نبه على فساد طريقة من أثبت لله شريكاً ونظيراً نبه على طريقة من أثبت له الولد وعلى كمال جهل هذه الفرقة، وهي أنهم اعتقدوا أن الولد قسمان ؛ فأشرف القسمين البنون، وأخسهما البنات. ثم إنهم أثبتوا البنين لأنفسهم مع علمهم بنهاية عجزهم ونقصهم وأثبتوا البنات لله مع علمهم بأن الله تعالى هو الموصوف بالكمال الذي لا نهاية له والجلال الذي لا غاية له، وذلك يدل على نهاية جهل القائل بهذا القول ونظيره قوله تعالى :﴿أَمْ لَهُ الْبَنَـاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ﴾ (الطور : ٣٩) وقوله :﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الانثَى ﴾ (النجم : ٢١) وقوله :﴿أَفَأَصْفَـاـاكُمْ﴾ يقال أصفاه بالشيء إذا آثر به، ويقال للضياع التي يستخصها السلطان بخاصية الصوافي. قال أبو عبيدة في قوله :﴿أَفَأَصْفَـاـاكُمْ﴾ أفخصكم، وقال المفضل : أخلصكم. قال النحويون هذه الهمزة همزة تدل على الإنكار على صيغة السؤال عن مذهب ظاهر الفساد لا جواب لصاحبه إلا بما فيه أعظم الفضيحة.
ثم قال تعالى :﴿إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلا عَظِيمًا﴾ وبيان هذا التعظيم من وجهين : الأول : أن إثبات الولد يقتضي كونه تعالى مركباً من الأجزاء والأبعاض، وذلك يقدح في كونه قديماً واجب الوجود لذاته. وذلك عظيم من القول ومنكر من الكلام. والثاني : أن بتقدير ثبوت الولد فقد جعلتم أشرف القسمين لأنفسكم وأخس القسمين لله. وهذا أيضاً جهل عظيم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٤٥
٣٤٨


الصفحة التالية
Icon