والوجه الثالث : أن القوم وإن كانوا مقرين بألسنتهم بإثبات إله العالم إلا أنهم ما كانوا عالمين بكمال قدرته. ولذلك فإنهم استبعدوا كونه تعالى قادراً على الحشر والنشر فكان المراد ذلك. وأيضاً فإنه تعالى قال لمحمد صلى الله عليه وسلّم :﴿قُل لَّوْ كَانَ مَعَه ا ءَالِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا ابْتَغَوْا إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلا﴾ فهم ما كانوا عالمين بهذا الدليل فلما ذكر هذا الدليل قال :﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَـاوَاتُ السَّبْعُ وَالارْضُ وَمَن فِيهِنَّ ﴾ فتسبيح السموات والأرض ومن فيهن يشهد بصحة هذا الدليل وقوته وأنتم لا تفقهون هذا الدليل ولا تعرفونه، بل نقول : إن القوم كانوا غافلين عن أكثر دلائل التوحيد والعدل، والنبوة والمعاد، فكان المراد من قوله :﴿وَلَـاكِن لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾ ذلك ومما يدل على أن الأمر كما ذكرناه قوله :﴿إِنَّه كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ فذكر الحليم والغفور ههنا يدل على أن كونهم بحيث لا يفقهون ذلك التسبيح جرم عظيم صدر عنهم وهذا إنما يكون جرماً إذا كان المراد من ذلك التسبيح كونها دالة على كمال قدرة الله تعالى وحكمته، ثم إنهم لغفلتهم وجهلهم ما عرفوا وجه دلالة تلك الدلائل. أما لو حملنا هذا التسبيح على أن هذه الجمادات تسبح الله بأقوالها وألفاظها لم يكن عدم الفقه لتلك التسبيحات جرماً ولا ذنباً، وإذا لم يكن ذلك جرماً ولا ذنباً لم يكن قوله :﴿إِنَّه كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ لائقاً بهذا الموضع، فهذا وجه قوي في نصرة القول الذي اخترناه. واعلم أن القائلين بأن هذه الجمادات والحيوانات تسبح الله بألفاظها أضافوا إلى كل حيوان نوعاً آخر من التسبيح. وقالوا : إنها إذا ذبحت لم تسبح مع أنهم يقولون إن الجمادات تسبح الله، فإذا كان كونه جماداً لا يمنع من كونه مسبحاً، فكيف صار ذبح الحيوان مانعاً له من التسبيح، وقالوا أيضاً : إن غصن الشجرة إذا كسر لم يسبح، وإذا كان كونه جماداً لم يمنع من كونه مسبحاً فكسره كيف يمنع من ذلك، فعلم أن هذه الكلمات ضعيفة والله أعلم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٤٨
المسألة الثانية : قوله :﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَـاوَاتُ السَّبْعُ وَالارْضُ وَمَن فِيهِنَّ ﴾ تصريح بإضافة التسبيح / إلى السموات والأرض وإلى المكلفين الحاصلين فيهن وقد دللنا على أن التسبيح المضاف إلى الجمادات ليس إلا بمعنى الدلالة على تنزيه الله تعالى وإطلاق لفظ التسبيح على هذا المعنى مجاز، وأما التسبيح الصادر عن المكلفين وهو قولهم : سبحان الله، فهذا حقيقة، فيلزم أن يكون قوله :﴿تُسَبِّحُ﴾ لفظاً واحداً قد استعمل في الحقيقة والمجاز معاً، وأنه باطل على ما ثبت دليله في أصول الفقه، فالأولى أن يحمل هذا التسبيح على الوجه المجازي في حق الجمادات لا في حق العقلاء لئلا يلزم ذلك المحذور والله أعلم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٤٨
٣٥١
اعلم أنه تعالى لما تكلم في الآية المتقدمة في المسائل الإلهية تكلم في هذه الآية فيما يتعلق بتقرير النبوة. وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في قوله :﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ﴾ قولان :
القول الأول : أن هذه الآية نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا قرأ القرآن على الناس. روي أنه عليه الصلاة والسلام كان كلما قرأ القرآن قام عن يمينه رجلان/، وعن يساره آخران من ولد قصي يصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار، وعن أسماء أنه صلى الله عليه وسلّم كان جالساً ومعه أبو بكر إذ أقبلت امرأة أبي لهب ومعها فهر تريد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهي تقول :
مذمماً أتينا ودينه قلينا وأمره عصينا


الصفحة التالية
Icon