فقال أبو بكر : يا رسول الله معها فهر أخشاها عليك، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلّم هذه الآية فجاءت فما رأت رسول الله عليه الصلاة والسلام وقالت : إن قريشاً قد علمت أني ابنة سيدها وأن صاحبك هجاني فقال أبو بكر : لا ورب هذا البيت ما هجاك. وروى ابن عباس : أن أبا سفيان والنضر بن الحرث وأبا جهل وغيرهم كانوا يجالسون النبي صلى الله عليه وسلّم ويستمعون إلى حديثه، فقال النضر يوماً : ما أدري ما يقول محمد غير أني أرى شفتيه تتحرك بشيء. وقال أبو سفيان : أني لأرى بعض ما يقوله حقاً، وقال أبو جهل : هو مجنون. وقال أبو لهب هو كاهن. وقال حويطب بن عبد العزى هو شاعر، فنزلت هذه الآية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا أراد تلاوة القرآن قرأ قبلها ثلاثة آيات وهي قوله في سورة الكهف :﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِـاَايَـاتِ رَبِّه فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِىَ مَا﴾ (الكهف : ٥٧) وفي النحل :﴿ أولئك الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ (النحل : ١٠٨) وفي حم الجاثية :﴿أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـاهَه هَوَاـاهُ﴾ (الجاثية : ٢٣) إلى آخر الآية فكان الله تعالى يحجبه ببركات هذه الآيات عن عيون المشركين، وهو المراد من قوله تعالى :﴿جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا﴾ وفيه سؤال : وهو أنه كان يجب أن يقال حجاباً ساتراً.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٥١
والجواب عنه من وجوه :
الوجه الأول : أن ذلك الحجاب حجاب يخلقه الله تعالى في عيونهم بحيث يمنعهم ذلك الحجاب عن رؤية النبي صلى الله عليه وسلّم وذلك الحجاب شيء لا يراه فكان مستوراً من هذا الوجه، احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في أنه يجوز أن تكون الحاسة سليمة ويكون المرئي حاضراً مع أنه لا يراه ذلك الإنسان لأجل أن الله تعالى خلق في عينيه مانعاً يمنعه عن رؤيته بهذه الآية قالوا : إن النبي صلى الله عليه وسلّم كان حاضراً وكانت حواس الكفار سليمة، ثم إنهم ما كانوا يرونه، وأخبر الله تعالى أن ذلك إنما كان لأجل أنه جعل بينه وبينهم حجاباً مستوراً/ والحجاب المستور لا معنى له إلا المعنى الذي خلقه الله تعالى في عيونهم، وكان ذلك المعنى مانعاً لهم من أن يروه ويبصروه.
والوجه الثاني : في الجواب أنه كما يجوز أن يقال لابن وتامر بمعنى ذو لبن وذو تمر فكذلك / لا يبعد أن يقال مستوراً معناه ذو ستر والدليل عليه قوله مرطوب أي ذو رطوبة ولا يقال رطيبة ويقال مكان مهول أي فيه هول ولا يقال : هلت المكان بمعنى جعلت فيه الهول، ويقال : جارية مغنوجة ذات غنج ولا يقال غنجتها.
والوجه الثالث : في الجواب قال الأخفش : المستور ههنا بمعنى الساتر، فإن الفاعل قد يجيء بلفظ المفعول كما يقال : إنك لمشؤم علينا وميمون وإنما هو شائم ويامن، لأنه من قولهم شأمهم ويمنهم، هذا قول الأخفش : وتابعه عليه قوم، إلا أن كثيراً منهم طعن في هذا القول، والحق هو الجواب الأول.
القول الثاني : أن معنى الحجاب الطبع الذي على قلوبهم والطبع والمنع الذي منعهم عن أن يدركوا لطائف القرآن ومحاسنه وفوائده، فالمراد من الحجاب المستور ذلك الطبع الذي خلقه الله في قلوبهم.
جزء : ٢٠ رقم الصفحة : ٣٥١


الصفحة التالية
Icon