والقول الرابع : وهو الأصح وهو قول أكثر المفسرين أن المراد بها ما أراه الله تعالى ليلة الإسراء، واختلفوا في معنى هذه الرؤيا فقال الأكثرون : لا فرق بين الرؤية والرؤيا في اللغة، يقال رأيت بعيني رؤية ورؤيا، وقال الأقلون : هذا يدل على أن قصة الإسراء إنما حصلت في المنام، وهذا القول ضعيف باطل على ما قررناه في أول هذه السورة، وقوله :﴿إِلا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ﴾ معناه : أنه عليه الصلاة والسلام لما ذكر لهم قصة الإسراء كذبوه وكفر به كثير ممن كان آمن به وازداد المخلصون إيماناً فلهذا السبب كان امتحاناً.
ثم قال تعالى :﴿وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِى الْقُرْءَانِ ﴾ وهذا على التقديم والتأخير، والتقدير : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس وقيل المعنى : والشجرة الملعونة في القرآن كذلك. واختلفوا في هذه الشجرة، فالأكثرون قالوا : إنها شجرة الزقوم المذكورة في القرآن في قوله :﴿إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الاثِيمِ﴾ (الدخان : ٤٣، ٤٤) وكانت هذه الفتنة في ذكر هذه الشجرة من وجهين : الأول :/أن أبا جهل قال : زعم صاحبكم بأن نار جهنم تحرق الحجر حيث قال :﴿وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾ (التحريم : ٦) ثم يقول : بأن في النار شجراً والنار تأكل الشجر فكيف تولد فيها الشجر. والثاني : قال ابن الزبعري ما نعلم الزقوم إلا التمر والزبد فتزقموا منه، فأنزل الله تعالى حين عجبوا أن يكون في النار شجر :﴿إِنَّا جَعَلْنَـاهَا فِتْنَةً لِّلظَّـالِمِينَ﴾ (الصافات : ٦٣) الآيات.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٣٦٥
فإن قيل : ليس في القرآن لعن هذه الشجرة.
قلنا : فيه وجوه : الأول : المراد لعن الكفار الذين يأكلونها. الثاني : العرب تقول لكل طعام مكروه ضار إنه ملعون. والثالث : أن اللعن في أصل اللغة هو التبعيد فلما كانت هذه الشجرة الملعونة في القرآن مبعدة عن جميع صفات الخير سميت ملعونة.
القول الثاني : قال ابن عباس رضي الله عنهما : الشجرة بنو أمية يعني الحكم بن أبي العاص قال ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في المنام أن ولد مروان يتداولون منبره فقص رؤياه على أبي بكر وعمر وقد خلا في بيته معهما فلما تفرقوا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم الحكم يخبر برؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فاشتد ذلك عليه، واتهم عمر في إفشاء سره، ثم ظهر أن الحكم كان يتسمع إليهم فنفاه رسول الله صلى الله عليه وسلّم. قال الواحدي : هذه القصة كانت بالمدينة، والسورة مكية فيبعد هذا التفسير إلا أن يقال : هذه الآية مدنية ولم يقل به أحد، ومما يؤكد هذا التأويل قول عائشة لمروان لعن الله أباك وأنت في صلبه فأنت بعض من لعنه الله.
والقول الثالث : أن الشجرة الملعونة في القرآن هي اليهود لقوله تعالى :﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ (المائدة : ٧٨).
فإن قال قائل : إن القوم لما طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلّم الإتيان بالمعجزات القاهرة فأجاب أنه لا مصلحة في إظهارها لأنها لو ظهرت ولم تؤمنوا نزل الله عليكم عذاب الاستئصال/ وذلك غير جائز وأي تعلق لهذا الكلام بذكر الرؤيا التي صارت فتنة للناس وبذكر الشجرة التي صارت فتنة للناس.
قلنا : التقدير كأنه قيل : إنهم لما طلبوا هذه المعجزات ثم إنك لم تظهرها صار عدم ظهورها شبهة لهم في أنك لست بصادق في دعوى النبوة إلا أن وقوع هذه الشبهة لا يوهن أمرك ولا يصير سبباً لضعف حالك ألا ترى أن ذكر تلك الرؤيا صار سبباً لوقوع الشبهة العظيمة في القلوب ثم إن قوة تلك الشبهات ما أوجبت ضعفاً في أمرك ولا فتوراً في اجتماع المحقين عليك فكذلك هذه الشبهة الحاصلة بسبب عدم ظهور هذه المعجزات لا توجب فتوراً في حالك، ولا ضعفاً في أمرك، والله أعلم.
ثم قال تعالى :﴿وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَـانًا كَبِيرًا﴾ والمقصود منه ذكر سبب آخر في أنه تعالى ما أظهر المعجزات التي اقترحوها، وذلك لأن هؤلاء خوفوا بمخاوف الدنيا والآخرة وبشجرة الزقوم فما زادهم هذا التخويف إلا طغياناً كبيراً، وذلك يدل على قسوة قلوبهم وتماديهم في الغي والطغيان، وإذا كان الأمر كذلك فبتقدير أن يظهر الله لهم تلك المعجزات التي اقترحوها لم ينتفعوا بها ولا يزدادون إلا تمادياً في الجهل والعناد، وإذا كان كذلك، وجب في الحكمة أن لا يظهر الله لهم ما اقترحوه من الآيات والمعجزات والله أعلم.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٣٦٥
٣٧٠
فيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon