المسألة الأولى : في كيفية النظم وجوه. الأول : اعلم أنه تعالى لما ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان في محنة عظيمة من قومه وأهل زمانه، بين أن حال الأنبياء ما أهل زمانهم كذلك. ألا ترى أن أول الأولياء هو آدم، ثم إنه كان في محنة شديدة من إبليس. الثاني : أن القوم إنما نازعوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعاندوه واقترحوا عليه الاقتراحات الباطلة لأمرين الكبر والحسد، أما الكبر فلأن تكبرهم كان يمنعهم من الإنقياد، وأما الحسد فلأنهم كانوا يحسدونه على ما آتاه الله من النبوة والدرجة العالية، فبين تعالى أن هذا الكبر والحسد هما اللذان حملا إبليس على الخروج من الإيمان والدخول في الكفر، فهذه بلية قديمة ومحنة عظيمة للخلق. والثالث : أنه تعالى لما وصفهم بقوله :﴿فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَـانًا كَبِيرًا﴾ (الإسراء : ٦٠) بين ما هو السبب لحصول هذا الطغيان وهو قول إبليس ﴿لاحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَه ا إِلا قَلِيلا﴾ فلأجل هذا المقصود ذكر الله تعالى قصة إبليس وآدم، فهذا هو الكلام في كيفية النظم.
المسألة الثانية : اعلم أن هذه القصة قد ذكرها الله تعالى في سور سبعة، وهي : البقرة والأعراف والحجر وهذا السورة والكهف وطه وص والكلام المستقصى فيها قد تقدم في البقرة والأعراف والحجر فلا فائدة في الإعادة ولا بأس بتعديد بعض المسائل :
المسألة الأولى : اختلفوا في أن المأمورين بالسجود لآدم أهم جميع الملائكة أم ملائكة الأرض على التخصيص، فظاهر لفظ الملائكة يفيد العموم إلا أن قوله تعالى في آخر سورة الأعراف في صفة ملائكة السموات ﴿وَلَه يَسْجُدُونَ ﴾ (الأعراف : ٢٠٦) يوجب خروج ملائكة السموات من هذا العموم.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٣٧٠
المسألة الثانية : أن المراد من هذه السجدة وضع الجبهة على الأرض أو التحية، وعلى التقدير الأول فآدم كان هو المسجود له أو يقال كان المسجود له هو الله تعالى وآدم كان قبلة للسجود ؟
المسألة الثالثة : أن إبليس هل هو من الملائكة أم لا ؟
وإن لم يكن من الملائكة فأمر الملائكة بالسجود كيف يتناوله ؟
المسألة الرابعة : هل كان إبليس كافراً من أول الأمر أو يقال إنما كفر في ذلك الوقت ؟
المسألة الخامسة : الملائكة سجدوا لآدم من أول ما كملت حياته أو بعد ذلك.
المسألة السادسة : شبهة إبليس في الامتناع من السجود أهو قوله :﴿لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَءَيْتَكَ هَـاذَا الَّذِى كَرَّمْتَ عَلَىَّ لئن أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ﴾ أو غيره.
المسألة السابعة : دلت هذه الآيات على أن إبليس كان عارفاً بربه، إلا أنه وقع في الكفر بسبب الكبر والحسد، ومنهم من أنكر وقال ما عرف الله ألبتة.
المسألة الثامنة : ما سبب حكمة إمهال إبليس وتسليطه على الخلق بالوسوسة ؟
ولنرجع إلى التفسير فنقول : إنه تعالى حكى في هذا الآية عن إبليس نوعاً واحداً من العمل ونوعين من القول، أما العمل فهو أنه لم يسجد لآدم وهو المراد من قوله :﴿فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ﴾ وأما النوعان من القول ؟
فأولهما : قوله :﴿لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَءَيْتَكَ هَـاذَا الَّذِى كَرَّمْتَ عَلَىَّ لئن أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ﴾ وهذا استفهام بمعنى الإنكار معناه أن أصلي أشرف من أصله فوجب أن أكون أنا أشرف منه، والأشرف يقبح في العقول أمره بخدمة الأدنى. والنوع الثاني من كلامه : قوله :﴿قَالَ أَرَءَيْتَكَ هَـاذَا الَّذِى كَرَّمْتَ﴾ قال الزجاج : قوله :﴿أَرَءَيْتَكَ﴾ معناه أخبرني، وقد استقصينا في تفسير هذه الكلمة في سورة الأنعام. وقوله :﴿هَـاذَا الَّذِى كَرَّمْتَ عَلَىَّ﴾ فيه وجوه. الأول : معناه : أخبرني عن هذا الذي فضلته علي لم فضلته علي وأنا خير منه ؟
ثم اختصر الكلام لكونه مفهوماً. الثاني : يمكن أن يقال هذا مبتدأ محذوف منه حرف الاستفهام، والذي مع صلته خبر، تقديره أخبرني أهذا الذي كرمته علي! وذلك على وجه الاستصغار والاستحقار، وإنما حذف حرف الاستفهام لأن حصوله في قوله / ﴿أَرَءَيْتَكَ﴾ أغنى عن تكراره. والوجه الثالث : أن يكون ﴿هَـاذَآ ﴾ مفعول ﴿أَرَءَيْتَ﴾ لأن الكاف جاءت لمجرد الخطاب لا محل لها، كأنه قال على وجه والتعجب والإنكار أبصرت أو علمت هذا الذي كرمت علي، بمعنى لو أبصرته أو علمته لكان يجب أن لا تكرمه علي، هذا هو حقيقة هذه الكلمة، ثم قال تعالى حكاية (عنه) ﴿ لئن أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ لاحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَه ا إِلا قَلِيلا﴾ وفيه مباحث :
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٣٧٠
البحث الأول : قرأ ابن كثير ﴿ لئن أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ﴾ بإثبات الياء في الوصل والوقف، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بالحذف نافع وأبو عمرو بإثباته في الوصل دون الوقف.


الصفحة التالية
Icon