البحث الثاني : في الاحتناك قولان، أحدهما : أنه عبارة عن الأخذ بالكلية، يقال : أحتنك فلان ما عند فلان من مال إذا استقصاه وأخذه بالكلية، واحتنك الجراد الزرع إذا أكله بالكلية. والثاني : أنه من قول العرب حنك الدابة يحنكها، إذا جعل في حنكها الأسفل حبلاً يقودها به، وقال أبو مسلم : الاحتناك افتعال من الحنك كأنهم يملكهم كما يملك الفارس فرسه بلجامه. فعلى القول الأول معنى الآية لأستأصلنهم بالإغواء. وعلى القول الثاني لأقودنهم إلى المعاصي كما تقاد الدابة بحبلها.
البحث الثالث : قوله :﴿إِلا قَلِيلا﴾ هم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله :﴿إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانٌ﴾ (الإسراء : ٦٥) فإن قيل كيف ظن إبليس هذا الظن الصادق بذرية آدم ؟
قلنا فيه وجوه. الأول : أنه سمع الملائكة يقولون :﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ﴾ (البقرة : ٣٠) فعرف هذه الأحوال. الثاني : أنه وسوس إلى آدم فلم يجد له عزماً فقال الظاهر أو أولاده يكونون مثله في ضعف العزم. الثالث : أنه عرف أنه مركب من قوة بهيمية شهوانية، وقوة سبعية غضبية، وقوة وهمية شيطانية، وقوة عقلية ملكية، وعرف أن القوى الثلاث أعني الشهوانية والغضبية والوهمية تكون هي المستولية في أول الخلقة، ثم إن القوة العقلية إنما تكمل في آخر الأمر، ومتى كان الأمر كذلك كان ما ذكره إبليس لازماً، واعلم أنه تعالى لما حكى عن إبليس ذلك حكى عن نفسه أنه تعالى قال له اذهب، وهذا ليس من الذهاب الذي هو نقيض المجيء وإنما معناه أمض لشأنك الذي اخترته، والمقصود التخلية وتفويض الأمر إليه.
ثم قال :﴿فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَآءً مَّوْفُورًا﴾ ونظيره قول موسى عليه الصلاة / والسلام ﴿قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِى الْحَيَواةِ أَن تَقُولَ لا﴾ (طه : ٩٧) فإن قيل أليس الأولى أن يقال : فإن جهنم جزاؤهم جزاء موفوراً. ليكون هذا الضمير راجعاً إلى قوله :﴿فَمَن تَبِعَكَ﴾ ؟
. قلنا فيه وجوه. الأول : التقدير فإن جهنم جزاؤهم وجزاؤكم ثم غلب المخاطب الغوائب فقيل جزاؤكم. والثاني : يجوز أن يكون هذا الخطاب مع الغائبين على طريقة الإلتفات. والثالث : أنه صلى الله عليه وسلّم قال :"من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" فكل معصية توجد فيحصل لإبليس مثل وزر ذلك العامل.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٣٧٠
فلما كان إبليس هو الأصل في كل المعاصي صار المخاطب بالوعيد هو إبليس، ثم قال :﴿جَزَآءً مَّوْفُورًا﴾ وهذه اللفظة قد تجيء متعدياً ولازماً، أما المتعدي فيقال : وفرته أفره وفراً (و) وفرة فهو (و) موفر، قال زهير :
ومن يجعل المعروف من دون عرضه
يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
واللازم كقوله : وفر المال يفر وفوراً فهو وافر، فعلى التقدير الأول : يكون المعنى جزاء موفوراً موفراً. وعلى الثاني : يكون المعنى جزاء موفوراً وافراً، وانتصب قوله ﴿جَزَآءُ﴾ على المصدر.


الصفحة التالية
Icon