اعلم أن إبليس لما طلب من الله الإمهال إلى يوم القيامة لأجل أن يحتنك ذرية آدم فالله تعالى ذكر أشياء. أولها : قوله :﴿اذْهَبْ﴾ ومعناه : أمهلتك هذه المدة. وثانيها : قوله تعالى :﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم﴾ يقال أفزه الخوف واستفزه أي أزعجه واستخفه، / وصوته دعاؤه إلى معصية الله تعالى، وقيل : أراد بصوتك الغناء واللهو واللعب، ومعنى صيغة الأمر هنا التهديد كما يقال : اجهد جهدك فسترى ما ينزل بك. وثالثها :﴿بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ﴾ في قوله :﴿وَأَجْلِبْ﴾ وجوه. الأول : قال الفراء : إنه من الجلبة وهو الصياح وربما قالوا الجلب كما قالوا الغلبة والغلب والشفقة والشفق، وقال الليث وأبو عبيدة أجلبوا وجلبوا من الصياح. الثاني : قال الزجاج في فعل وأفعل، أجلب على العدو إجلاباً إذا جمع عليه الخيول. الثالث : قال ابن السكيت يقال هم يجلبون عليه بمعنى أنهم يعينون عليه. والرابع : روى ثعلب عن ابن الأعرابي أجلب الرجل على الرجل إذا توعده الشر وجمع عليه الجمع، فقوله : وأجلب عليهم معناه على قول الفراء صح عليهم بخيلك ورجلك، وعلى قول الزجاج : أجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدك وتكون الباء في قوله : بخيلك زائدة على هذا القول، وعلى قول ابن السكيت معناه أعن عليهم بخيلك ورجلك ومفعول الإجلاب على هذا القول محذوف كأنه يستعين على إغوائهم بخيله ورجله، وهذا أيضاً يقرب من قول ابن الأعرابي، واختلفوا في تفسير الخيل والرجل، فروى أبو الضحى عن ابن عباس أنه قال :"كل راكب أو راجل في معصية الله تعالى فهو من خيل إبليس وجنوده"، ويدخل فيه كل راكب وماشٍ في معصية الله تعالى، فعلى هذا التقدير خيله ورجله كل من شاركه في الدعاء إلى المعصية. والقول الثاني : يحتمل أن يكون لإبليس جند من الشياطين بعضهم راكب وبعضهم راجل. والقول الثالث : أن المراد منه ضرب المثل كما تقول للرجل المجد في الأمر جئتنا بخيلك ورجلك وهذا الوجه أقرب، والخيل تقع على الفرسان. قال عليه الصلاة والسلام :"يا خيل الله اركبي" وقد تقع على الأفراس خاصة، والمراد ههنا الأول والرجل جمع راجل كما قالوا تاجر وتجر وصاحب وصحب وراكب وركب، وروى حفص عن عاصم ورجلك بكسر الجيم وغيره بالضم، قال أبو زيد يقال رجل ورجل بمعنى واحد ومثله حدث وحدث وندس وندس، قال ابن الأنباري : أخبرنا ثعلب عن الفراء قال : يقال رجل ورجل ورجلان بمعنى واحد. والنوع الرابع : من الأشياء التي ذكرها الله تعالى لإبليس قوله :
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٣٧٠
﴿وَشَارِكْهُمْ فِى الامْوَالِ وَالاوْلَـادِ﴾ نقول : أما المشاركة في الأموال فهي عبارة عن كل تصرف قبيح في المال سواء كان ذلك القبيح بسبب أخذه من غير حقه أو وضعه في غير حقه ويدخل فيه الربا والغصب والسرقة والمعاملات الفاسدة، وهكذا قاله القاضي وهو ضبط حسن/ وأما المفسرون فقد ذكروا وجوهاً قال قتادة : المشاركة في الأموال هي أن جعلوا بحيرة وسائبة، وقال عكرمة هي عبارة عن تبتيكهم آذان الأنعام، وقيل هي أن جعلوا من أموالهم شيئاً لغير / الله تعالى كما قال تعالى :﴿فَقَالُوا هَـاذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـاذَا لِشُرَكَآاـاِنَا ﴾ (الأنعام : ١٣٦) والأصوب ما قاله القاضي، وأما المشاركة في الأولاد فذكروا فيه وجوهاً. أحدها : أنها الدعاء إلى الزنا، وزيف الأصم ذلك بأن قال إنه لا ذم على الولد، ويمكن أن يجاب عنه بأن المراد وشاركهم في طريق تحصيل الولد وذلك بالدعاء إلى الزنا. وثانيها : أن يسموا أولادهم بعبد اللات وعبد العزى. وثالثها : أن يرغبوا أولادهم في الأديان الباطلة كاليهودية والنصرانية وغيرهما. ورابعها : إقدامهم على قتل الأولاد ووأدهم. وخامسها : ترغيبهم في حفظ الأشعار المشتملة على الفحش وترغيبهم في القتل والقتال والحرف الخبيثة الخسيسة والضابط أن يقال إن كل تصرف من المرء في ولده على وجه يؤدي إلى ارتكاب منكر أو قبيح فهو داخل فيه.
والنوع الخامس : من الأشياء التي ذكرها الله تعالى لإبليس في هذه الآية قوله :﴿وَعَدَّهُمْ﴾.
واعلم أنه لما كان مقصود الشيطان الترغيب في الاعتقاد الباطل والعمل الباطل والتنفير عن الاعتقاد الحق والعمل الحق، ومعلوم أن الترغيب في الشيء لا يمكن إلا بأن يقرر عنده أنه لا ضرر البتة في فعله ومع ذلك فإنه يفيد المنافع العظيمة، والتنفير عن الشيء لا يمكن إلا بأن يقرر عنده أنه لا فائدة في فعله، ومع ذلك فيفيد المضار العظيمة، إذا ثبت هذا فنقول : إن الشيطان إذا دعا إلى المعصية فلا بد وأن يقرر أولاً أنه لا مضرة في فعله البتة، وذلك إنما يمكن إذا قال لا معاد ولا جنة ولا نار، ولا حياة بعد هذه الحياة، فبهذا الطريق يقرر عنده أنه لا مضرة البتة في فعل هذه المعاصي، وإذا فرغ عن هذا المقام قرر عنده أن هذا الفعل يفيد أنواعاً من اللذة والسرور ولا حياة للإنسان في هذه الدنيا إلا به، فتفويتها غبن وخسران كما قال الشاعر :


الصفحة التالية
Icon