جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٣٧٠
خذوا بنصيب من سرور ولذة
فكل وإن طال المدى يتصرم
فهذا هو طريق الدعوة إلى المعصية، وأما طريق التنفير عن الطاعة فهو أن يقرر أولاً عنده أنه لا فائدة فيه وتقريره من وجهين. الأول : أن يقول لا جنة ولا نار ولا ثواب ولا عذاب. والثاني : أن هذه العبادات لا فائدة فيها للعابد والمعبود فكانت عبثاً محضاً فبهذين الطريقين يقرر الشيطان عند الإنسان أنه لا فائدة فيها، وإذا فرغ عن هذا المقام قال إنها توجب التعب والمحنة وذلك أعظم المضار، فهذه مجامع تلبيس الشيطان، فقوله :﴿وَعَدَّهُمْ﴾ يتناول كل هذه الأقسام، قال المفسرون قوله :﴿وَعَدَّهُمْ﴾ أي بأنه لا جنة ولا نار، وقال آخرون :﴿وَعَدَّهُمْ﴾ بتسويف التوبة، وقال آخرون ﴿وَعَدَّهُمْ﴾ بالأماني الباطلة مثل قوله لآدم :﴿مَا نَهَـاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـاذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَـالِدِينَ﴾ (الأعراف : ٢٠) وقال آخرون : وعدهم بشفاعة الأصنام عند الله تعالى وبالأنساب الشريفة وإيثار العاجل على الآجل، وبالجملة فهذه الأقسام كثيرة وكلها داخلة في الضبط الذي ذكرناه وإن أردت الاستقصاء في هذا الباب فطالع كتاب ذم الغرور من كتاب إحياء علوم الدين للشيخ الغزالي حتى يحيط عقلك بمجامع تلبيس إبليس، واعلم أن الله تعالى لما قال :﴿وَعَدَّهُمْ﴾ أردفه بما يكون زاجراً عن قبول وعده فقال :﴿وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَـانُ إِلا غُرُورًا﴾ والسبب فيه أنه إنما يدعو إلى أحد أمور ثلاثة قضاء الشهوة وإمضاء الغضب وطلب الرياسة وعلو الدرجة/ ولا يدعو البتة إلى معرفة الله تعالى ولا إلى خدمته، وتلك الأشياء الثلاثة معنوية من وجوه كثيرة. أحدها : أنها في الحقيقة ليست لذات بل هي خلاص عن الآلام. وثانيها : وإن كانت لذات لكنها لذات خسيسة مشترك فيها بين الكلاب والديدان والخنافس وغيرها. وثالثها : أنها سريعة الذهاب والانقضاء والانقراض. ورابعها : أنها لا تحصل إلا بمتاعب كثيرة ومشاق عظيمة. وخامسها : أن لذات البطن والفرج لا تتم إلا بمزاولة رطوبات عفنة مستقذرة. وسادسها : أنها غير باقية بل يتبعها الموت والهرم والفقر والحسرة على الفوت والخوف من الموت. فلما كانت هذه المطالب وإن كانت لذيذة بحسب الظاهر إلا أنها ممزوجة بهذه الآفات العظيمة والمخالفات الجسيمة، كان الترغيب فيها تغريراً، ولهذا المعنى قال تعالى :﴿وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَـانُ إِلا غُرُورًا﴾.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٣٧٠
واعلم أنه تعالى لما قال له افعل ما تقدر عليه فقال تعالى :﴿إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانٌ﴾ وفيه قولان :
الأول : أن المراد كل عباد الله من المكلفين، وهذا قول أبي علي الجبائي، قال والدليل عليه أن الله تعالى إستثنى منه في آيات كثيرة من يتبعه بقوله :﴿إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ﴾ (الحجر : ٤٢) ثم استدل بهذا على أنه لا سبيل لإبليس وجنوده على تصريع الناس وتخبيط عقولهم وأنه لا قدرة له إلا على قدر الوسوسة وأكد ذلك بقوله تعالى :﴿وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَـانٍ إِلا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلا تَلُومُونِى وَلُومُوا أَنفُسَكُمْ ﴾ (إبراهيم : ٢٢). وأيضاً فلو قدر على هذه الأعمال لكان يجب أن يتخبط أهل الفضل وأهل العلم دون سائر الناس ليكون ضرره أعظم. ثم قال وإنما يزول عقله لا من جهة الشيطان لكن لغلبة الأخلاط الفاسدة ولا يمتنع أن يكون أحد أسباب ذلك المرض اعتقاد أن الشيطان يقدم عليه فيغلب الخوف فيحدث ذلك المرض.
والقول الثاني : أن المراد بقوله :﴿إِنَّ عِبَادِى﴾ أهل الفضل والعلم والإيمان لما بينا فيما تقدم / أن لفظ العباد في القرآن مخصوص بأهل الإيمان، والدليل عليه أنه قال في آية أخرى :﴿إِنَّمَا سُلْطَـانُه عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَه ﴾ (النحل : ١٠٠).
ثم قال :﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا﴾ وفيه بحثان :
البحث الأول : أنه تعالى لما مكن إبليس من أن يأتي بأقصى ما يقدر عليه في باب الوسوسة، وكان ذلك سبباً لحصول الخوف الشديد في قلب الإنسان قال :﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا﴾ ومعناه أن الشيطان وإن كان قادراً فالله تعالى أقدر منه وأرحم بعباده من الكل فهو تعالى يدفع عنه كيد الشيطان ويعصمه من إضلاله وإغوائه.
البحث الثاني : هذه الآية تدل على أن المعصوم من عصمه الله تعالى وأن الإنسان لا يمكنه أن يحترز بنفسه عن مواقع الضلالة، لأنه لو كان الإقدام على الحق والاحجام عن الباطل إنما يحصل للإنسان من نفسه لوجب أن يقال : وكفى الإنسان نفسه في الاحتراز عن الشيطان، فلما لم يقل ذلك بل قال :﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ﴾ علمنا أن الكل من الله، ولهذا قال المحققون : لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله. بقي في الآية سؤالان :
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٣٧٠


الصفحة التالية
Icon