والنوع الثالث : قوله :﴿أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ﴾ قال الليث : الخسف والخسوف هو دخول الشيء في الشيء. يقال : عين خاسفة وهي التي غابت حدقتها في الرأس، وعين من الماء خاسفة أي غائرة الماء، وخسفت الشمس أي احتجبت وكأنها وقعت تحت حجاب أو دخلت في جحر. فقوله :﴿أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ﴾ أي نغيبكم من جانب البر وهو الأرض، وإنما قال ﴿جَانِبَ الْبَرِّ﴾ لأنه ذكر البحر في الآية الأولى فهو جانب، والبر جانب، خبر الله تعالى أنه كما قدر على أن يغيبهم في الماء فهو قادر أيضاً على أن يغيبهم في الأرض، فالغرق تغييب تحت الماء كما أن الخسف تغييب تحت التراب، وتقرير الكلام أنه تعالى ذكر في الآية الأولى أنهم كانوا خائفين من هول البحر، فلما نجاهم منه آمنوا، فقال : هب أنكم نجوتم من هول البحر فكيف أمنتم من هو البر ؟
فإنه تعالى قادر على أن يسلط عليكم آفات البر من جانب التحت أو من جانب الفوق، أما من جانب التحت فبالخسف. وأما من جانب الفوق فبامطار الحجارة عليهم، وهو المراد من قوله :﴿أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا﴾ فكما لا يتضرعون إلا إلى الله تعالى عند ركوب البحر، فكذلك يجب أن لا يتضرعوا إلا إليه في كل الأحوال. ومعنى الحصب في اللغة : الرمي. يقال : حصبت أحصب حصباً إذا رميت والحصب المرمي. ومنه قوله تعالى :﴿حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ أي يلقون فيها/ ومعنى قوله :﴿حَاصِبًا﴾ أي عذاباً يحصبهم، أي يرميهم بحجارة، ويقال للريح التي تحمل التراب والحصباء حاصب، والسحاب الذي يرمي بالثلج والبرد يسمى حاصباً لأنه يرمي بهما رمياً. وقال الزجاج : الحاصب التراب الذي فيه حصباء والحاصب على هذا ذو الحصباء مثل اللابن والتامر وقوله :﴿ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا﴾ يعني لا تجدوا ناصراً ينصركم ويصونكم من عذاب الله، ثم قال :﴿أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ﴾ أي في البحر تارة أخرى وقوله :﴿فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا﴾ من الريح القاصف الكاسر يقال : قصف الشيء يقصفه قصفاً إذا كسره بشدة، والقاصف من الريح التي تكسر الشجر، وأراد ههنا ريحاً شديدة تقصف الفلك وتغرقهم وقوله :﴿فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ﴾ أي بسبب كفركم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعاً. قال الزجاج : أي لا تجدوا من يتبعنا بإنكار ما نزل بكم بأن يصرفه عنكم، وتبيع بمعنى تابع.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٣٧٢
واعلم أن هذه الآية مشتملة على ألفاظ خمسة : وهي قوله :﴿أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو جميع هذه الخمسة بالنون، والباقون بالياء، فمن قرأ بالياء، فلأن ما قبله على الواحد الغائب وهو قوله :﴿مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاه ا فَلَمَّا نَجَّـاـاكُمْ﴾ (الإسراء : ٦٧) ومن قرأ بالنون فلأن هذا البحر من الكلام، قد ينقطع بعضه من بعض وهو سهل لأن المعنى واحد. ألا ترى أنه قد جاء ﴿وَجَعَلْنَـاهُ هُدًى لِّبَنِى إسرائيل أَلا تَتَّخِذُوا مِن دُونِى وَكِيلا﴾ فانتقل من الجمع إلى الأفراد وكذلك ههنا يجوز أن ينتقل من الغيبة إلى الخطاب، والمعنى واحد والكل جائز والله أعلم.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٣٧٢
٣٧٥
اعلم أن المقصود من هذه الآية ذكر نعمة أخرى جليلة رفيعة من نعم الله تعالى على الإنسان وهي الأشياء التي بها فضل الإنسان على غيره وقد ذكر الله تعالى في هذه الآية أربعة أنواع :


الصفحة التالية
Icon