وأما المركبات فهي إما الآثار العلوية، وإما المعادن والنبات، وأما الحيوان والإنسان كالمستولي على هذه الأقسام والمنتفع بها والمستسخر لكل أقسامها فهذا العالم بأسره جار مجرى قرية معمورة أو خان معد وجميع منافعها ومصالحها مضروفة إلى الإنسان فيه كالرئيس المخدوم، والملك المطاع وسائر الحيوانات بالنسبة إليه كالعبيد، وكل ذلك يدل على كونه مخصوصاً من عند الله بمزيد التكريم والتفضيل والله أعلم. وسابعها : أن المخلوقات تنقسم إلى أربعة أقسام إلى ما حصلت له القوة العقلية الحكمية ولم تحصل له القوة الشهوانية الطبيعية وهم الملائكة، وإلى ما يكون بالعكس وهم البهائم وإلى ما خلا عن القسمين وهو النبات والجمادات وإلى ما حصل النوعان فيه وهو الإنسان، ولا شك أن الإنسان لكونه مستجمعاً للقوة العقلية القدسية المحضة، وللقوى الشهوانية البهيمية والغضبية والسبعية يكون أفضل من البهيمية ومن السبعية، ولا شك أيضاً أنه أفضل من الأجسام الخالية عن القوتين مثل النبات والمعادن والجمادات، وإذا ثبت ذلك ظهر أن الله تعالى فضل الإنسان على أكثر أقسام المخلوقات. بقي ههنا بحث في أن الملك أفضل أم البشر ؟
والمعنى أن الجوهر البسيط الموصوف بالقوة العقلية القدسية المحضة أفضل أم البشر المستجمع لهاتين القوتين ؟
وذلك بحث آخر. وثامنها : الموجود إما أن يكون أزلياً وأبدياً معاً وهو الله سبحانه وتعالى، وإما أن يكون ولا أزلياً لا أبدياً وهو عالم الدنيا مع كل ما فيه من المعادن والنبات والحيوان، وهذا أخس الأقسام، وإما أن يكون أزلياً لا أبدياً وهو الممتنع الوجود لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه، وإما أن لا يكون أزلياً ولكنه يكون أبدياً، وهو الإنسان والملك، ولا شك أن هذا القسم أشرف من القسم الثاني والثالث وذلك يقتضي كون الإنسان أشرف من أكثر مخلوقات الله تعالى. وتاسعها : العالم العلوي أشرف من العالم السفلي، وروح الإنسان من جنس الأرواح العلوية والجواهر القدسية فليس في موجودات / العالم السفلي شيء حصل فيه شيء من العالم العلوي إلا الإنسان فوجب كون الإنسان أشرف موجودات العالم السفلي. وعاشرها : أشرف الموجودات هو الله تعالى، وإذا كان كذلك فكل موجود كان قربه من الله تعالى أتم، وجب أن يكون أشرف، لكن أقرب موجودات هذا العالم من الله هو الإنسان بسبب أن قلبه مستنير بمعرفة الله تعالى ولسانه مشرف بذكر الله وجوارحه وأعضاؤه مكرمة بطاعة الله تعالى فوجب الجزم بأن أشرف موجودات هذا العالم السفلي هو الإنسان، ولما ثبت أن الإنسان موجود ممكن لذاته، والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته ثبت أن كل ما حصل للإنسان من المراتب العالية والصفات الشريفة فهي إنما حصلت بإحسان الله تعالى وإنعامه فلهذا المعنى قال تعالى :﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ﴾ ومن تمام كرامته على الله تعالى أنه تعالى لما خلقه في أول الأمر وصف نفسه بأنه أكرم فقال :﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ * خَلَقَ الانسَـانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاكْرَمُ * الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ (العلق : ١ ـ ٤) ووصف نفسه بالتكريم عند تربيته للإنسان فقال :﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ﴾ ووصف نفسه بالكرم في آخر أحوال الإنسان فقال :﴿وَأَخَّرَتْ * يَـا أَيُّهَا الانسَـانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾ (الإنفطار : ٦) وهذا يدل على أنه لا نهاية لكرم الله تعالى ولفضله وإحسانه مع الإنسان والله أعلم.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٣٧٥
والوجه الحادي عشر : قال بعضهم هذا التكريم معناه أنه تعالى خلق آدم بيده وخلق غيره بطريق كن فيكون. ومن كان مخلوقاً بيد الله كانت العناية به أتم وأكمل، وكان أكرم وأكمل ولما جعلنا من أولاده وجب كون بني آدم أكرم وأكمل والله أعلم.
النوع الثاني : من المدائح المذكورة في هذه الآية قوله :﴿وَحَمَلْنَـاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ قال ابن عباس في البر على الخيل والبغال والحمير والإبل وفي البحر على السفن، وهذا أيضاً من مؤكدات التكريم المذكور أولاً، لأنه تعالى سخر هذه الدواب له حتى يركبها ويحمل عليها ويغزو ويقاتل ويذب عن نفسه، وكذلك تسخير الله تعالى المياه والسفن وغيرها ليركبها وينقل عليها ويتكسب بها مما يختص به ابن آدم، كل ذلك مما يدل على أن الإنسان في هذا العالم كالرئيس المتبوع والملك المطاع وكل ما سواه فهو رعيته وتبع له.
النوع الثالث : من المدائح قوله :﴿وَرَزَقْنَـاهُم مِّنَ الطَّيِّبَـاتِ﴾ وذلك لأن الأغذية إما حيوانية وإما نباتية، وكلا القسمين إنما يتغذى الإنسان منه بألطف أنواعها وأشرف أقسامها بعد التنقية التامة والطبخ الكامل والنضج البالغ، وذلك مما لا يحصل إلا للإنسان.
النوع الرابع : قوله :﴿وَفَضَّلْنَـاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا﴾ وههنا بحثان :


الصفحة التالية
Icon