المسألة الثانية : قال الزجاج معنى الكلام كادوا يفتنونك ودخلت إن واللام للتأكيد وإن مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، والمعنى إن الشأن (أنهم) قاربوا أن يفتنوك أي يخدعوك فاتنين (و) أصل الفتنة الاختبار يقال فتن الصائغ الذهب إذا أدخله النار وأذابه / لتميز جيده من رديئه ثم استعملوه في كل من أزال الشيء عن حده وجهته فقالوا فتنه فقوله :﴿وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ﴾ أي يزيلونك ويصرفونك عن الذي أوحينا إليك يعني القرآن، والمعنى عن حكمة وذلك لأن في إعطائهم ما سألوه مخالفة لحكم القرآن، وقوله :﴿لِتَفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَه ﴾ أي غير ما أوحينا إليك وهو قولهم : قل الله أمرني بذلك ﴿وَإِذًا اتَّخَذُوكَ خَلِيلا﴾ أي لو فعلت ما أرادوا لاتخذوك خليلاً وأظهروا للناس أنك موافق لهم على كونهم وراضٍ بشركهم ثم قال :﴿وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَـاكَ﴾ أي على الحق بعصمتنا إياك ﴿لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ﴾ أي تميل إليهم شيئاً قليلاً وقوله :﴿شَيْـاًا﴾ عبارة عن المصدر أي ركوناً قليلاً، قال ابن عباس يريد حيث سكت عن جوابهم. قال قتادة لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلّم :"اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين" ثم توعده في ذلك أشد التوعد فقال :﴿إِذًا لاذَقْنَـاكَ ضِعْفَ الْحَيَواةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ﴾ أي ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات يريد عذاب الدنيا وعذاب الآخرة والضعف عبارة عن أن يضم إلى الشيء مثله فإن الرجل إذا قال لوكيله أعط فلاناً شيئاً فأعطاه درهماً فقال أضعفه كان المعنى ضم إلى ذلك الدرهم مثله إذا عرفت هذا فنقول : إنا حسن إضمار العذاب في قوله :﴿ضِعْفَ الْحَيَواةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ﴾ لما تقدم في القرآن من وصف العذاب بالضعف في قوله :﴿رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَـاذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِى النَّارِ﴾ (ص : ٦١) وقال :﴿لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـاكِن لا تَعْلَمُونَ﴾ (الأعراف : ٣٨) وحاصل الكلام أنك لو مكنت خواطر الشيطان من قلبك وعقدت على الركون إليه همتك لاستحققت بذلك تضعيف العذاب عليك في الدنيا والآخرة ولصار عذابك مثلي عذاب المشرك في الدنيا ومثلي عذابه في الآخرة والسبب في تضعيف هذا العذاب أن أقسام نعم الله تعالى في حق الأنبياء عليهم السلام أكثر فكانت ذنوبهم أعظم فكانت العقوبة المستحقة عليها أكثر ونظيره قوله تعالى :﴿يَـانِسَآءَ النَّبِىِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَـاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَـاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ﴾ (الأحزاب : ٣٠) فإن قيل قال عليه السلام :"من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" فموجب هذا الحديث أنه عليه السلام لو رضي بما قالوه لكان وزره مثل وزر كل أحد من أولئك الكفار وعلى هذا التقدير يكون عقابه زائداً على الضعف قلنا إثبات الضعف لا يدل على نفي الزائد عليه إلا بالبناء على دليل الخطاب وهو حجة ضعيفة ثم قال تعالى :﴿ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾ يعني إذا أذقناك العذاب المضاعف لم تجد أحداً يخلصك من عذابنا وعقابنا والله أعلم.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٣٨٠
المسألة الثالثة : احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية فقالوا هذه الآية تدل على صدور الذنب العظيم عنهم من وجوه. الأول : أن الآية دلت على أنه عليه السلام قرب من أن يفتري على الله، والفرية على الله من أعظم الذنوب. والثاني : أنها تدل على أنه لولا أن الله تعالى ثبته وعصمه لقرب من أن يركن إلى دينهم ويميل إلى مذهبهم. والثالث : أنه لولا سبق جرم وجناية وإلا فلا حاجة إلى ذكر هذا الوعيد الشديد والجواب عن الأول : أن / كاد معناه المقاربة فكان معنى الآية أنه قرب وقوعه في الفتنة، وهذا القدر لا يدل على الوقوع في تلك الفتنة فإنا إذا قلنا كاد الأمير أن يضرب فلاناً لا يفهم منه أنه ضربه، والجواب عن الثاني : أن كلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره، تقول لولا علي لهلك عمر، معناه أن وجود علي منع من حصول الهلاك لعمر، فكذلك ههنا قوله :﴿وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَـاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ﴾ معناه أنه حصل تثبيت الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلّم فكان حصول ذلك التثبيت مانعاً من حصول ذلك الركون، والجواب عن الثالث : أن ذلك التهديد على المعصية لا يدل على الإقدام عليها والدليل عليه آيات منها قوله :﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاقَاوِيلِ * لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾ (الحاقة : ٤٤ ـ ٤٦) ومنها قوله :﴿ لئن أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ (الزمر : ٦٥) ومنها قوله :﴿وَلا تُطِعِ الْكَـافِرِينَ وَالْمُنَـافِقِينَ ﴾ (الأحزاب : ٤٨) والله أعلم.


الصفحة التالية
Icon