المسألة الرابعة : احتج أصحابنا على صحة قولهم بأنه لا عصمة عن المعاصي إلا بتوفيق الله تعالى بقوله :﴿وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَـاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْـاًا قَلِيلا﴾ قالوا إنه تعالى بين أنه لولا تثبيت الله تعالى له لمال إلى طريقة الكفار ولا شك أن محمد صلى الله عليه وسلّم كان أقوى من غيره في قوة الدين وصفاء اليقين فلما بين الله تعالى أن بقاءه معصوماً عن الكفر والضلال لم يحصل إلا باعانة الله تعالى وإغاثته كان حصول هذا المعنى في حق غيره أولى. قالت المعتزلة : المراد بهذا التثبيت الألطاف الصارفة له عن ذلك وهي ما خطر بباله من ذكر وعده ووعيده، ومن ذكر أن كونه نبياً من عند الله تعالى يمنع من ذلك، والجواب : لا شك أن هذا التثبيت عبارة عن فعل فعله الله يمنع الرسول من الوقوع في ذلك العمل المحذور، فنقول : لو لم يوجد المقتضى للإقدام على ذلك العمل المحذور في حق الرسول لما كان إلى إيجاد هذا المانع حاجة وحيث وقعت الحاجة إلى تحصيل هذا المانع علمنا أن المقتضى قد حصل في حق الرسول صلى الله عليه وسلّم وأن هذا المانع الذي فعله الله منع ذلك المقتضى من العمل وهذا لا يتم إلا إذا قلنا إن القدرة مع الداعي توجب الفعل، فإذا حصلت داعية أخرى معارضة للداعية الأولى اختل المؤثر فامتنع الفعل ونحن لا نريد إلا إثبات هذا المعنى والله أعلم.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٣٨٠
المسألة الخامسة : قال القفال رحمه الله : قد ذكرنا في سبب نزول هذه الآية الوجوه المذكورة، ويمكن أيضاً تأويلها من غير تقييد بسبب يضاف نزولها فيه لأن من المعلوم أن المشركين كانوا يسعون في إبطال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأقصى ما يقدرون عليه، فتارة كانوا يقولون : إن عبدت آلهتنا عبدنا إلهك، فأنزل الله تعالى :﴿قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ (الكافرون : ١، ٢) وقوله :﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ (القلم : ٩) وعرضوا عليه الأموال الكثيرة والنسوان الجميلة ليترك ادعاء النبوة فأنزل الله تعالى :﴿وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ﴾ (طه : ١٣١) ودعوه إلى طرد المؤمنين عن نفسه فأنزل الله تعالى قوله :﴿وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم﴾ (الأنعام : ٥٢) فيجوز أن تكون هذه الآيات نزلت في هذا الباب / وذلك أنهم قصدوا أن يفتنوه عن دينه وأن يزيلوه عن منهجه، فبين تعالى أنه يثبته على الدين القويم والمنهج المستقيم، وعلى هذا الطريق فلا حاجة في تفسير هذه الآيات إلى شيء من تلك الروايات. والله أعلم.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٣٨٠
٣٨٢
في هذه الآية قولان : الأول : قال قتادة : هم أهل مكة هموا بإخراج النبي صلى الله عليه وسلّم من مكة، ولو فعلوا ذلك ما أمهلوا، ولكن الله منعهم من اخراجه، حتى أمره الله بالخروج، ثم إنه قل لبثهم بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلّم من مكة حتى بعث الله عليهم القتل يوم بدر وهذا قول مجاهد. والقول الثاني : قال ابن عباس : إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما هاجر إلى المدينة حسدته اليهود وكرهوا قربه منهم فقالوا : يا أبا القاسم إن الأنبياء إنما بعثوا بالشام وهي بلاد مقدسة وكانت مسكن إبراهيم فلو خرجت إلى الشام آمنا بك واتبعناك وقد علمنا أنه لا يمنعك من الخروج إلا خوف الروم فإن كنت رسول الله فالله مانعك منهم. فعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلّم على أميال من المدينة قيل بذي الحليفة حتى يجتمع إليه أصحابه ويراه الناس عازماً على الخروج إلى الشام لحرصه على دخول الناس في دين الله فنزلت هذه الآية فرجع. فالقول الأول اختيار الزجاج وهو الوجه لأن السورة مكية فإن صح القول الثاني كانت الآية مدنية، والأرض في قوله :﴿لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الارْضِ﴾ على القول الأول مكة وعلى القول الثاني المدينة وكثر في التنزيل ذكر الأرض والمراد منها مكان مخصوص كقوله :﴿أَوْ يُنفَوْا مِنَ الارْضِ ﴾ (المائدة : ٣٣) يعني من مواضعهم وقوله :﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الارْضَ﴾ (يوسف : ٨٠) يعني الأرض التي كان قصدها لطلب الميرة، فإن قيل قال الله تعالى :﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِى أَخْرَجَتْكَ﴾ (محمد : ١٣) يعني مكة والمراد أهلها فذكر أنهم أخرجوه وقال في هذه الآية :﴿وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الارْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ﴾ فكيف (يمكن) الجمع بينهما على قول من قال الأرض في هذه الآية مكة ؟
قلنا : إنهم هموا بإخراجه وهو عليه السلام ما خرج بسبب إخراجهم وإنما خرج بأمر الله تعالى، فزال التناقض. ثم قال تعالى :﴿وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلَـافَكَ إِلا قَلِيلا﴾ وفيه مسألتان :
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٣٨٢


الصفحة التالية
Icon