الحجة الثالثة : أنه تعالى ذكر مراتب الخلقة الجسمانية فقال :﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ مِن سُلَـالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَـاهُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ﴾ (المؤمنون : ١٢، ١٣) إلى قوله :﴿فَكَسَوْنَا الْعِظَـامَ لَحْمًا﴾ (المؤمنون : ١٤) ولا شك أن جميع هذه المراتب اختلافات واقعة في الأحوال الجسمانية ثم إنه تعالى لما أراد أن يذكر نفخ الروح قال :﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً﴾ وهذا تصريح بأن ما يتعلق بالروح جنس مغاير لما سبق ذكره من التغيرات الواقعة في الأحوال الجسمانية وذلك يدل على أن الروح شيء مغاير للبدن فإن قالوا هذه الآية حجة عليكم لأنه تعالى قال :﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ مِن سُلَـالَةٍ مِّن طِينٍ﴾ وكلمة من للتبعيض وهذا يدل على أن الإنسان بعض من أبعاض الطين قلنا كلمة من أصلها لابتداء الغاية كقولك خرجت من البصرة إلى الكوفة فقوله تعالى :﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ مِن سُلَـالَةٍ مِّن طِينٍ﴾ يقتضي أن يكون ابتداء تخليق الإنسان حاصلاً من هذه السلالة ونحن نقول بموجبه لأنه تعالى يسوي المزاج أولاً ثم ينفخ فيه الروح فيكون ابتداء تخليقه من السلالة.
الحجة الرابعة : قوله :﴿فَإِذَا سَوَّيْتُه وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى﴾ (الحجر : ٢٩) ميز تعالى بين البشرية وبين نفخ الروح فالتسوية عبارة عن تخليق الأبعاض والأعضاء وتعديل المزاج والأشباح فلما ميز نفخ الروح عن تسوية الأعضاء ثم أضاف الروح إلى نفسه بقوله :﴿مِن رُّوحِى﴾ دل ذلك على أن جوهر الروح معنى مغاير لجوهر الجسد.
الحجة الخامسة : قوله تعالى :﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاـاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاـاهَا﴾ (الشمس : ٧، ٨) وهذه الآية صريحة في وجود شيء موصوف بالإدراك والتحريك حقاً لأن الإلهام عبارة عن الإدراك، وأما الفجور والتقوى فهو فعل وهذه الآية صريحة في أن الإنسان شيء واحد وهو موصوف أيضاً بالإدراك والتحريك وموصوف أيضاً بفعل الفجور تارة وفعل التقوى تارة أخرى ومعلوم أن جملة البدن غير موصوف بهذين الوصفين فلا بد من إثبات جوهر آخر يكون موصوفاً بكل هذه الأمور.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٣٩١
الحجة السادسة : قوله تعالى :﴿إِنَّا خَلَقْنَا الانسَـانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَـاهُ سَمِيعَا بَصِيرًا﴾ (الإنسان : ٢) فهذا تصريح بأن الإنسان شيء واحد وذلك الشيء هو المبتلي بالتكاليف الإلهية والأمور الربانية وهو الموصوف بالسمع والبصر ومجموع البدن ليس كذلك وليس عضواً من أعضاء البدن كذلك فالنفس شيء مغاير لجملة البدن ومغاير لأجزاء البدن وهو موصوف بكل هذه الصفات. واعلم أن الأحاديث الواردة في صفة الأرواح قبل تعلقها بالأجساد وبعد انفصالها من الأجساد كثيرة وكل ذلك يدل على أن النفس شيء غير هذا الجسد، والعجب ممن يقرأ هذه الآيات الكثيرة ويروي هذه الأخبار الكثيرة ثم يقول توفى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وما كان يعرف الروح وهذا من العجائب والله أعلم.
المسألة السابعة : في دلالة الآية التي نحن في تفسيرها على صحة ما ذكرناه أن الروح لو كان جسماً منتقلاً من حالة إلى حالة ومن صفة إلى صفة لكان مساوياً للبدن في كونه متولداً من أجسام اتصفت بصفات مخصوصة بعد أن كانت موصوفة بصفات أخرى فإذا سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الروح وجب أن يبين أنه جسم كان كذا ثم صار كذا حتى صار روحاً مثل ما ذكر في كيفية تولد البدن أنه كان نطفة ثم علقة، ثم مضغة فلما لم يقل ذلك بل قال :﴿إِنَّه مِنَ الصَّـالِحِينَ﴾ بمعنى أنه لا يحدث ولا يدخل في الوجود إلا لأجل أن الله تعالى قال له :﴿كُن فَيَكُونُ﴾ (البقرة : ١١٧) دل ذلك على أنه جوهر ليس من جنس الأجسام بل هو جوهر قدسي مجرد واعلم أن أكثر العارفين المكاشفين من أصحاب الرياضيات وأرباب المكاشفات والمشاهدات مصرون على هذا القول جازمون بهذا المذهب قال الواسطي : خلق الله الأرواح من بين الجمال والبهاء فلولا أنه سترها لسجد لها كل كافر، وأما بيان أن تعلقه الأول بالقلب ثم بواسطته يصل تأثيره إلى جملة الأعضاء فقد شرحناه في تفسير قوله تعالى :﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ﴾ (الشعراء : ١٩٣، ١٩٤) واحتج المنكرون بوجوه. الأول : لو كانت مساوية لذات الله في كونه ليس بجسم ولا عرض لكانت مساوية له في تمام الماهية وذلك محال. الثاني : قوله تعالى :﴿قُتِلَ الانسَـانُ مَآ أَكْفَرَه * مِنْ أَىِّ شَىْءٍ خَلَقَه * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَه فَقَدَّرَه * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَه * ثُمَّ أَمَاتَه فَأَقْبَرَه * ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَه ﴾ (
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٣٩١