المسألة الثانية : قوله :﴿كَمَا زَعَمْتَ﴾ فيه وجوه. الأول : قال عكرمة كما زعمت يا محمد أنك نبي فأسقط السماء علينا. والثاني : قال آخرون كما زعمت أن ربك إن شاء فعل. الثالث : يمكن أن يكون المراد ما ذكره الله تعالى في هذه السورة في قوله :﴿أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا﴾ (الإسراء : ٦٨) فقيل اجعل السماء قطعاً متفرقة كالحاصب وأسقطها علينا. ورابعها : قولهم :﴿أَوْ تَأْتِىَ بِاللَّهِ والملائكة قَبِيلا﴾ وفي لفظ القبيل وجوه. الأول : القبيل بمعنى المقابل كالعشير بمعنى المعاشر، وهذا القول منهم يدل على جهلهم حيث لم يعلموا أنه لا يجوز عليه المقابلة ويقرب منه قوله :﴿وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍ قُبُلا﴾ (الأنعام : ١١١). والقول الثاني : ما قاله ابن عباس يريد فوجاً / بعد فوج. قال الليث وكل جند من الجن والإنس قبيل وذكرنا ذلك في قوله :﴿إِنَّه يَرَاـاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُه ﴾. القول الثالث : إن قوله قبيلاً معناه ها هنا ضامناً وكفيلاً، قال الزجاج : يقال قبلت به أقبل كقولك كفلت به أكفل، وعلى هذا القول فهو واحد أريد به الجمع كقوله تعالى :﴿وَحَسُنَ أُوالَـا ئِكَ رَفِيقًا﴾ (النساء : ٦٩). والقول الرابع : قال أبو علي معناه المعاينة والدليل عليه قوله تعالى :﴿لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَـا اـاِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا ﴾ (الفرقان : ٢١). وخامسها : قولهم :﴿أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ﴾ قال مجاهد : كنا لا ندري ما الزخرف حتى رأيت في قراءة عبد الله :﴿أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ﴾ قال الزجاج : الزخرف الزينة يدل عليه قوله تعالى :﴿حَتَّى ا إِذَآ أَخَذَتِ الارْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ﴾ (يونس : ٢٤) أي أخذت كمال زينتها ولا شيء في تحسين البيت وتزيينه كالذهب. وسادسها : قولهم :﴿أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَآءِ﴾ قال الفراء : يقال رقيت وأنا أرقى رقي ورقيا وأنشد :
أنت الذي كلفتني رقي الدرج
على الكلال والمشيب والعرج
وقوله في السماء أي في معارج السماء فحذف المضاف، يقال رقي السلم ورقي الدرجة ثم قالوا :﴿وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ﴾ أي لن نؤمن لأجل رقيك :﴿حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَـابًا نَّقْرَؤُه ا قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ اِلا بَشَرًا رَّسُولا﴾ فيه تصديقك قال عبد الله بن أمية :﴿لَن نُّؤْمِنَ﴾ حتى نصنع على السماء سلماً ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها ثم تأتي معك بصك منشور معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أن الأمر كما تقول. ولما حكى الله تعالى عن الكفار اقتراح هذه المعجزات قال لمحمد صلى الله عليه وسلّم :﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ اِلا بَشَرًا رَّسُولا﴾ وفيه مباحث :
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤١٠
المبحث الأول : أنه تعالى حكى من قول الكفار قولهم :﴿لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الارْضِ يَنابُوعًا﴾ (الإسراء : ٩٠) إلى قوله :﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى﴾ وكل ذلك كلام القوم وإنا لا نجد بين تلك الكلمات وبين سائر آيات القرآن تفاوتاً في النظم فصح بهذا صحة ما قاله الكفار لو نشاء لقلنا مثل هذا. والجواب : أن هذا القرآن قليل لا يظهر فيه التفاوت بين مراتب الفصاحة والبلاغة فزال هذا السؤال.
البحث الثاني : هذه الآيات من أدل الدلائل على أن المجيء والذهاب على الله محال لأن كلمة سبحان للتنزيه عما لا ينبغي، وقوله سبحان ربي تنزيه لله تعالى عن شيء لا يليق به أو نسب إليه مما تقدم ذكره وليس فيما تقدم ذكره شيء لا يليق بالله إلا قولهم أو تأتي بالله فدل هذا على أن قوله :﴿سُبْحَانَ رَبِّى﴾ تنزيه لله عن الإتيان والمجيء وذلك يدل على فساد قول المشبهة في أن الله تعالى يجيء ويذهب، فإن قالوا : لم لا يجوز أن يكون المراد تنزيه الله تعالى عن أن يتحكم عليه المتحكمون في اقتراح الأشياء ؟
قلنا القوم لم يتحكموا على الله، وإنما قالوا للرسول صلى الله عليه وسلّم إن كنت نبياً صادقاً فاطلب من الله أن يشرفك بهذه المعجزات فالقوم تحكموا على الرسول وما تحكموا على الله فلا يليق حمل قوله :﴿سُبْحَانَ رَبِّى﴾ على هذا المعنى فوجب حمله على قولهم أو تأتي بالله.


الصفحة التالية
Icon