اعلم أنه تعالى ذكر من قبل جملة من واقعتهم ثم قال :﴿نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ ﴾ أي على وجه الصدق :﴿نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم﴾ كانوا جماعة من الشبان آمنوا بالله، ثم قال تعالى في صفاتهم :﴿وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ أي ألهمناها الصبر وثبتناها :﴿إِذْ قَامُوا ﴾ وفي هذا القيام أقوال : الأول : قال مجاهد كانوا عظماء مدينتهم فخرجوا فاجتمعوا وراء المدينة من غير ميعاد، فقال رجل منهم أكبر القوم إني لأجد / في نفسي شيئاً ما أظن أن أحداً يجده، قالوا ما تجد ؟
قال أجد في نفسي أن ربي رب السموات والأرض. القول الثاني : أنهم قاموا بين يدي ملكهم دقيانوس الجبار، وقالوا : ربنا رب السموات والأرض، وذلك لأنه كان يدعو الناس إلى عبادة الطواغيت، فثبت الله هؤلاء الفتية، وعصمهم حتى عصوا ذلك الجبار، وأقروا بربوبية الله، وصرحوا بالبراءة عن الشركاء والأنداد. والقول الثالث : وهو قول عطاء ومقاتل أنهم قالوا ذلك عند قيامهم من النوم وهذا بعيد لأن الله استأنف قصتهم بقوله :﴿نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ﴾ وقوله :﴿لَّقَدْ قُلْنَآ إِذًا شَطَطًا﴾ معنى الشطط في اللغة مجاوزة الحد، قال الفراء يقال قد أشط في السوم إذ جاوز الحد ولم يسمع إلا أشط يشط أشطاطاً وشططاً، وحكى الزجاج وغيره شط الرجل وأشط إذا جاوز الحد، ومنه قوله :﴿وَلا تُشْطِطْ﴾ (ص : ٢٢) وأصل هذا من قولهم شطت الدار إذا بعدت، فالشطط البعد عن الحق، وهو ههنا منصوب على المصدر، والمعنى لقد قلنا إذا قولاً شططاً، أما قوله :﴿هَـا ؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِه ءَالِهَةً ﴾ هذا من قول أصحاب الكهف ويعنون الذين كانوا في زمان دقيانوس عبدوا الأصنام ﴿لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَـانا بَيِّنٍ﴾ بحجة بينة، ومعنى عليهم أي على عبادة الآلهة، ومعنى الكلام أن عدم البينة بعدم الدلائل على ذلك لا يدل على عدم المدلول، ومن الناس من يحتج بعدم الدليل على عدم المدلول ويستدل على صحة هذه الطريقة بهذه الآية. فقال إنه تعالى استدل على عدم الشركاء والأضداد بعدم الدليل عليها فثبت أن الاستدلال بعدم الدليل على عدم المدلول طريقة قوية، ثم قال :﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ يعني أن الحكم بثبوت الشيء مع عدم الدليل عليه ظلم وافتراء على الله وكذب عليه، وهذا من أعظم الدلائل على فساد القول بالتقليد.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤٤٢
٤٤٤
اعلم أن المراد أنه قال بعضهم لبعض :﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ﴾ واعتزلتم الشيء الذي يعبدونه إلا الله فإنكم لم تعتزلوا عبادة الله :﴿فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ﴾ قال الفراء هو جواب إذ كما تقول إذ فعلت كذا فافعل كذا، ومعناه : إذهبوا إليه واجعلوه مأواكم :﴿يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِه ﴾ أي يبسطها عليكم :﴿وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا﴾ قرأن افع وابن عامر وعاصم في رواية مرفقاً بفتح الميم وكسر الفاء والباقون مرفقاً بكسر الميم وفتح الفاء، قال الفراء : وهما لغتان واشتقاقهما من الإرتفاق، وكان الكسائي ينكر في مرفق الإنسان الذي في اليد إلا كسر الميم وفتح الفاء، والفراء يجيزه في الأمر وفي اليد وقيل هما لغتان إلا أن الفتح أقيس والكسر أكثر وقيل المرفق ما ارتفقت به، والمرفق بالفتح المرافق ثم قال تعالى :﴿وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ﴾ وفيه مباحث :
البحث الأول : قرأ ابن عامر تَزْوَرُّ ساكنة الزاي المعجمة مشددة الراء مثل تحمر، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي تزاور بالألف والتخفيف والباقون تزاور بالتشديد والألف والكل بمعنى واحد، والتزاور هو الميل والانحراف، ومنه زاره إذا مال إليه والزور الميل عن الصدق، وأما التشديد فأصله تتزاور سكنت التاء الثانية وأدغمت في الزاي، وأما التخفيف فهو تفاعل من الزور وأما تزور فهو من الإزورار.
البحث الثاني : قوله :﴿وَتَرَى الشَّمْسَ﴾ أي أنت أيها المخاطب ترى الشمس عند طلوعها تميل عن كهفهم وليس المراد أن من خوطب بهذا يرى هذا المعنى ولكن العادة في المخاطبة تكون على هذا النحو، ومعناه أنك لو رأيته على هذه الصورة.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤٤٤
البحث الثالث : قوله :﴿ذَاتَ الْيَمِينِ﴾ أي جهة اليمين وأصله أن ذات صفة أقيمت مقام الموصوف لأنها تأنيث ذو في قولهم رجل ذو مال، وامرأة ذات مال، والتقدير كأنه قيل تزاور عن كهفهم جهة ذات اليمين، وأما قوله :﴿وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ﴾ ففيه بحثان :


الصفحة التالية
Icon