البحث الأول : قال الكسائي قرضت المكان أي عدلت عنه وقال أبو عبيدة القرض في أشياء فمنها القطع، وكذلك السير في البلاد أي إذا قطعها. تقول لصاحبك هل وردت مكان كذا فيقول المجيب إنما قرضته فقوله :﴿تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ﴾ أي تعدل عن سمت رؤوسهم إلى جهة الشمال.
البحث الثاني : للمفسرين ههنا قولان : القول الأول : أن باب ذلك الكهف كان مفتوحاً إلى جانب الشمال فإذا طلعت الشمس كانت على يمين الكهف وإذا غربت كانت على شماله فضوء / الشمس ما كان يصل إلى داخل الكهف، وكان الهواء الطيب والنسيم الموافق يصل، والمقصود أن الله تعالى صان أصحاب الكهف من أن يقع عليهم ضوء الشمس وإلا لفسدت أجسامهم فهي مصونة عن العفونة والفساد. والقول الثاني : أنه ليس المراد ذلك، وإنما المراد أن الشمس إذا طلعت منع الله ضوء الشمس من الوقوع. وكذا القول حال غروبها/ وكان ذلك فعلاً خارقاً للعادة وكرامة عظيمة خص الله بها أصحاب الكهف، وهذا قول الزجاج واحتج على صحته بقوله :﴿ذَالِكَ مِنْ ءَايَـاتِ اللَّه ﴾ قال ولو كان الأمر كما ذكره أصحاب القول الأول لكان ذلك أمراً معتاداً مألوفاً فلم يكن ذلك من آيات الله، وأما إذا حملنا الآية على هذا الوجه الثاني كان ذلك كرامة عجيبة فكانت من آيات الله، واعلم أنه تعالى أخبر بعد ذلك أنهم كانوا في متسع من الكهف ينالهم فيه برد الريح ونسيم الهواء، قال :﴿وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مِّنْه ﴾ أي من الكهف، والفجوة متسع في مكان، قال أبو عبيدة وجمعها فجوات، ومنه الحديث :"فإذا وجد فجوة نص" ثم قال تعالى :﴿ذَالِكَ مِنْ ءَايَـاتِ اللَّه ﴾ وفيه قولان الذين قالوا إنه يمنع وصول ضوء الشمس بقدرته قالوا المراد من قوله ذلك أي ذلك التزاور والميل، والذين لم يقولوا به قالوا المراد بقوله ذلك أي ذلك الحفظ الذي حفظهم الله في الغار تلك المدة الطويلة، من آيات الله الدالة على عجائب قدرته وبدائع حكمته، ثم بين تعالى أنه كما أن بقاءهم هذه المدة الطويلة مصوناً عن الموت والهلاك من تدبيراته ولطفه وكرمه، فكذلك رجوعهم أولاً عن الكفر ورغبتهم في الإيمان كان بإعانة الله ولطفه فقال :﴿مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ﴾ مثل أصحاب الكهف :﴿وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَه وَلِيًّا مُّرْشِدًا﴾ كدقيانوس الكافر وأصحابه، ومناظرات أهل الجبر والقدر في هذه الآية معلومة.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤٤٤
٤٤٥
اعلم أن معنى قوله :﴿وَتَحْسَبُهُمْ﴾ على ما ذكرناه في قوله :﴿وَتَرَى الشَّمْسَ﴾ أي لو رأيتهم لحسبتهم ﴿أَيْقَاظًا﴾ وهو جمع يقظ ويقظان قاله الأخفش وأبو عبيدة والزجاج وأنشدوا لرؤبة :
ووجدوا إخوانهم أيقاظاً
ومثله قوله نجد ونجدان وأنجاد، وهم رقود أي نائمون وهو مصدر سمي المفعول به كما يقال قوم ركوع وقعود وسجود يوصف الجمع بالمصدر، ومن قال إنه جمع راقد فقد أبعد لأنه لم يجمع فاعل على فعول، قال الواحدي : وإنما يحسبون ﴿أَيْقَاظًا﴾ لأن أعينهم مفتحة وهم نيام وقال الزجاج لكثرة تقلبهم يظن أنهم أيقاظ، والدليل عليه قوله تعالى :﴿وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ﴾ واختلفوا في مقدار مدة التقليب فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن لهم في كل عام تقليبتين وعن مجاهد يمكثون على أيمانهم تسع سنين ثم يقلبون على شمائلهم فيمكثون رقوداً تسع سنين وقيل لهم تقليبة واحدة في يوم عاشوراء. وأقول هذه التقديرات لا سبيل للعقل إليها، ولفظ القرآن لا يدل عليه، وما جاء فيه خبر صحيح فكيف يعرف ؟
وقال ابن عباس رضي الله عنهما فائدة تقليبهم لئلا تأكل الأرض لحومهم ولا تبليهم. وأقول هذا عجيب لأنه تعالى لما قدر على أن يمسك حياتهم مدة ثلثمائة سنة وأكثر فلم لا يقدر على حفظ أجسادهم أيضاً من غير تقليب ؟
وقوله :﴿ذَاتَ﴾ منصوبة على الظرف لأن المعنى في ناحية ﴿عَنِ الْيَمِينِ﴾ أو على ناحية ﴿الْيَمِينِ﴾ كما قلنا في قوله :﴿تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ﴾ وقوله :﴿وَكَلْبُهُم بَـاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ﴾ قال ابن عباس وأكثر المفسرين قالوا إنهم هربوا ليلاً من ملكهم، فمروا براع معه كلب فتبعهم على دينهم ومعه كلبه، وقال كعب مروا بكلب فنبح عليهم فطردوه فعاد ففعلوا مراراً، فقال لهم الكلب ما تريدون مني لا تخشوا جانبي أنا أحب أحباء الله فناموا حتى أحرسكم، وقال عبيد بن عمير كان ذلك كلب صيدهم ومعنى :
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤٤٥


الصفحة التالية
Icon