المسألة الخامسة : اعلم أن مدار القول بإثبات البعث والقيامة على أصول ثلاثة. أحدها : أنه تعالى قادر على كل الممكنات. والثاني : أنه تعالى عالم بجميع المعلومات من الكليات والجزئيات. وثالثها : أن كل ما كان ممكن الحصول في بعض الأوقات كان ممكن الحصول في سائر الأوقات فإذا ثبتت هذه الأصول الثلاثة ثبت القول بإمكان البعث والقيامة، فكذلك ها هنا ثبت أنه تعالى عالم قادر على الكل، وثبت أن بقاء الإنسان حياً في النوم مدة يوم ممكن فكذلك بقاؤه مدة ثلثمائة سنة يجب أن يكون ممكناً بمعنى أن إله العالم يحفظه ويصونه عن الآفة. وأما الفلاسفة فإنهم يقولون أيضاً : لا يبعد وقوع أشكال فلكية غريبة توجب في هيولي عالم الكون والفساد حصول أحوال غريبة نادرة، وأقول : هذه السور الثلاثة المتعاقبة اشتمل كل واحد منها على حصول حالة عجيبة نادرة في هذا العالم فسورة بني إسرائيل اشتملت على الإسراء بجسد محمد صلى الله عليه وسلّم من مكة إلى الشام وهو حالة عجيبة، وهذه السورة اشتملت على بقاء القوم في النوم مدة ثلثمائة سنة وأزيد وهو أيضاً حالة عجيبة، وسورة مريم اشتملت على حدوث الولد لا من الأب وهو أيضاً حالة عجيبة. / والمعتمد في بيان إمكان كل هذه العجائب والغرائب المذكورة في هذه السور الثلاثة المتوالية هو الطريقة التي ذكرناها. ومما يدل على أن هذا المعنى من الممكنات أن أبا علي بن سينا ذكر في باب الزمان من كتاب الشفاء أن أرسطاطاليس الحكيم ذكر أنه عرض لقوم من المتألهين حالة شبيهة بحالة أصحاب الكهف، ثم قال أبو علي : ويدل التاريخ على أنهم كانوا قبل أصحاب الكهف.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤٥٤
٤٥٥
اعلم أن من هذه الآية إلى قصة موسى والخضر كلام واحد في قصة واحدة، وذلك أن أكابر كفار قريش احتجوا وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : إن أردت أن نؤمن بك فاطرد من عندك هؤلاء الفقراء الذين آمنوا بك والله تعالى نهاه عن ذلك ومنعه عنه وأطنب في جملة هذه الآيات في بيان أن الذي اقترحوه والتمسوه مطلوب فاسد واقتراح باطل، ثم إنه تعالى جعل الأصل في هذا الباب شيئاً واحداً وهو أن يواظب على تلاوة الكتاب الذي أوحاه الله إليه وعلى العمل به وأن لا يلتفت إلى اقتراح المقترحين وتعنت المتعنتين فقال :﴿وَاتْلُ مَآ أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ ﴾ وفي الآية مسألة وهي : أن قوله :﴿اتْلُ﴾ يتناول القراءة ويتناول الإتباع فيكون المعنى الزم قراءة الكتاب الذي أوحى إليك والزم العمل به ثم قال :﴿لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَـاتِه ﴾ أي يمتنع تطرق التغيير والتبديل إليه وهذه الآية يمكن التمسك بها في إثبات أن تخصيص النص بالقياس غير جائز لأن قوله :﴿اتْلُ مَآ أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَـابِ﴾ معناه ألزم العمل بمقتضى هذا الكتاب وذلك يقتضي وجوب العمل بمقتضى ظاهره، فإن قيل فيجب ألا يتطرق النسخ إليه قلنا هذا هو مذهب أبي مسلم الأصفهاني فليس يبعد، وأيضاً فالنسخ في الحقيقة ليس بتبديل لأن المنسوخ ثابت في وقته إلى وقت طريان الناسخ فالناسخ كالغاية فكيف يكون تبديلاً. أما قوله :﴿وَلَن تَجِدَ مِن دُونِه مُلْتَحَدًا﴾ اتفقوا على أن الملتحد هو الملجأ قال أهل اللغة : هو من لحد وألحد إذا مال ومنه قوله تعالى :﴿لِّسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ﴾ (النحل : ١٠٣) والملحد المائل عن الدين والمعنى ولن تجد من دونه ملجأ في البيان والرشاد.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤٥٥
٤٥٨
اعلم أن أكابر قريش اجتمعوا وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : إن أردت أن نؤمن بك فاطرد هؤلاء الفقراء من عندك، فإذا حضرنا لم يحضروا، وتعين لهم وقتاً يجتمعون فيه عندك فأنزل الله تعالى :﴿وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم﴾ (الأنعام : ٥٢) الآية فبين فيها إنه لا يجوز طردهم بل تجالسهم وتوافقهم وتعظم شأنهم ولا تلتفت إلى أقوال أولئك الكفار ولا تقيم لهم في نظرك وزناً سواء غابوا أو حضروا. وهذه القصة منقطعة عما قبلها وكلام مبتدأ مستقل. ونظير هذه الآية قد سبق في سورة الأنعام وهو قوله :﴿وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَواةِ وَالْعَشِىِّ﴾ (الأنعام : ٥٢) ففي تلك الآية نهي الرسول صلى الله عليه وسلّم عن طردهم وفي هذه الآية أمره بمجالستهم والمصابرة معهم فقوله :﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ﴾ أصل الصبر الحبس ومنه نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن المصبورة وهي البهيمة تحبس فترمي، أما قوله :﴿مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَواةِ وَالْعَشِىِّ﴾ ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ ابن عامر بالغدوة بضم الغين والباقون بالغداة وكلاهما لغة.


الصفحة التالية
Icon