الفائدة الثالثة : أنها تدل على أنه تعالى لا ينتفع بإيمان المؤمنين ولا يستضر بكفر الكافرين، بل نفع الإيمان يعود عليهم، وضرر الكفر يعود عليهم، كما قال تعالى :﴿إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لانفُسِكُم وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾ (الإسراء : ٧)، واعلم أنه تعالى لما وصف الكفر والإيمان والباطل والحق أتبعه بذكر الوعيد على الكفر والأعمال الباطلة، وبذكر الوعد على الإيمان والعمل الصالح. أما الوعيد فقوله تعالى :﴿إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا﴾ يقول اعتدنا لمن ظلم نفسه ووضع العبادة في غير موضعها والأنفة في غير محلها فعندما استحسن بهواه وأنف عن قبول الحق لأجل أن الذين قبلوه فقراء ومساكين، فهذا كله ظلم ووضع للشيء في غير موضعه. فأخبر تعالى أنه أعد لهؤلاء الأقوام ناراً وهي الجحيم، ثم وصف تعالى تلك النار بصفتين : الصفة الأولى : قوله :﴿أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ﴾ والسرادق هو الحجزة التي تكون حول الفسطاط فأثبت للنار شيئاً شبيهاً بذلك يحيط بهم من جميع الجهات، والمراد أنه لا مخلص لهم منها ولا فرجة يتفرجون بالنظر إلى ما وراءها من غير النار بل هي محيطة بهم من كل الجوانب. وقال بعضهم : المراد من هذا السرادق الدخان الذي وصفه الله في قوله :﴿انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِى ثَلَـاثِ شُعَبٍ﴾ (المرسلات : ٣٠) وقالوا : هذه الإحاطة بهم إنما تكون قبل دخولهم النار فيغشاهم هذا الدخان ويحيط بهم كالسرادق حول الفسطاط. والصفة الثانية : لهذه النار قوله :﴿وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ﴾ قيل في حديث مرفوع إنه دردي الزيت وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه دخل بيت المال وأخرج نفاثة كانت فيه وأوقد عليها النار حتى تلألأت ثم قال : هذا هو المهل، قال أبو عبيدة والأخفش كل شيء أذبته من ذهب أو نحاس أو فضة فهو المهل، وقيل : إنه الصديد والقيح، وقيل إنه ضرب من القطران. ثم يحتمل أن تكون هذه الاستغاثة لأنهم إذا طلبوا ماء للشرب فيعطون هذا المهل قال تعالى :﴿تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ ءَانِيَةٍ﴾ (الغاشية : ٤، ٥) ويحتمل أن يستغيثوا من حر جهنم فيطلبوا ماء يصبونه على أنفسهم للتبريد فيعطون هذا الماء. قال تعالى حكاية عنهم :﴿أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ﴾ (الأعراف : ٥٠) وقال في آية أخرى :﴿سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ﴾ (إبراهيم : ٥٠) فإذا استغاثوا من حر جهنم صب عليهم القطران الذي يعم كل أبدانهم كالقميص وقوله تعالى :﴿يُغَاثُوا بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ﴾ وارد على سبيل الاستهزاء كقوله :
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤٦٠
تحية بينهم ضرب وجيع
ثم قال تعالى :﴿بِئْسَ الشَّرَابُ﴾ أي أن الماء الذي هو كالمهل بئس الشراب لأن المقصود بشرب الشراب تسكين الحرارة وهذا يبلغ في احتراق الأجسام مبلغاً عظيماً ثم قال تعالى :﴿وَسَآءَتْ مُرْتَفَقًا﴾ قال قائلون : ساءت النار منزلاً ومجتمعاً للرفقة لأن أهل النار يجتمعون رفقاء كأهل الجنة. قال تعالى في صفة أهل الجنة :﴿وَحَسُنَ أُوالَـا ئِكَ رَفِيقًا﴾ (النساء : ٦٩) وأما رفقاء النار فهم الكفار والشياطين / والمعنى بئس الرفقاء هؤلاء وبئس موضع الترافق النار كما أنه نعم الرفقاء أهل الجنة ونعم موضع الرفقاء الجنة. وقال آخرون مرتفقاً أي متكأ، وسمي المرفق مرفقاً لأنه يتكأ عليه، فالإتكاء إنما يكون للاستراحة، والمرتفق موضع الاستراحة والله أعلم.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤٦٠
٤٦١
اعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد المبطلين أردفه بوعد المحقين وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله :﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ﴾ يدل على أن العمل الصالح مغاير للإيمان لأن العطف يوجب المغايرة.
المسألة الثانية : قوله :﴿إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا﴾ ظاهره يقتضي أنه يستوجب المؤمن بحسن عمله على الله أجراً، وعند أصحابنا ذلك الاستيجاب حصل بحكم الوعد وعند المعتزلة لذات الفعل وهو باطل لأن نعم الله كثيرة وهي موجبة للشكر والعبودية فلا يصير الشكر والعبودية موجبين لثواب آخر لأن أداء الواجب لا يوجب شيئاً آخر.
المسألة الثالثة : نظير قوله :﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ﴾ الخ قول الشاعر :
إن الخليفة إن الله سربله
سربال ملك به ترجى الخواتيم
كرر أن تأكيداً للأعمال والجزاء عليها.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤٦١


الصفحة التالية
Icon