المسألة الثانية : أنه تعالى بين في هذه الآية أن إبليس كان من الجن وللناس في هذه المسألة ثلاثة أقوال : الأول : أنه من الملائكة وكونه من الملائكة لا ينافي كونه من الجن ولهم فيه وجوه. الأول : أن قبيلة من الملائكة يسمون بذلك لقوله تعالى :﴿وَجَعَلُوا بَيْنَه وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا ﴾ (الصافات : ١٥٨) ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَآءَ الْجِنَّ﴾ (الأنعام : ١٠٠). والثاني : أن الجن سموا جناً للاستتار والملائكة كذلك فهم داخلون في الجن. الثالث : أنه كان خازن الجنة ونسب إلى الجنة كقولهم كوفي وبصري وعن سعيد بن جبير أنه كان من الجنانين الذين يعملون في الجنات حي من الملائكة يصوغون حلية أهل الجنة مذ خلقوا رواه القاضي في تفسيره عن هشام عن سعيد بن جبير. والقول الثاني : أنه من الجن الذين هم الشياطين والذين خلقوا من نار وهو أبوهم. والقول الثالث : قول من قال كان من الملائكة فمسخ وغير. وهذه المسألة قد أحكمناها في سورة البقرة وأصل ما يدل على أنه ليس من الملائكة أنه تعالى أثبت له ذرية ونسلاً في هذه الآية وهو قوله :﴿أَفَتَتَّخِذُونَه وَذُرِّيَّتَه ا أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى﴾ والملائكة ليس لهم ذرية ولا نسل فوجب أن لا يكون إبليس من الملائكة. بقي أن يقال : إن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود فلو لم يكن إبليس من الملائكة فكيف تناوله ذلك الأمر، وأيضاً / لو لم يكن من الملائكة فكيف يصح استثناؤه منهم، وقد أجبنا عن كل ذلك بالاستقصاء ثم قال تعالى :﴿فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّه ﴾ وفي ظاهره إشكال لأن الفاسق لا يفسق عن أمر ربه، فلهذا السبب ذكروا فيه وجوهاً. الأول : قال الفراء : ففسق عن أمر ربه أي خرج عن طاعته. والعرب تقول فسقت الرطبة من قشرها أي خرجت، وسميت الفأرة فويسقة لخروجها من جحرها من البابين وقال رؤبة :
يهوين في نجد وغور غائرا
فواسقا عن قصدها جوائرا
الثاني : حكى الزجاج عن الخليل وسيبويه أنه قال : لما أمر فعصى كان سبب فسقه هو ذلك الأمر، والمعنى أنه لولا ذلك الأمر السابق لما حصل الفسق، فلأجل هذا المعنى حسن أن يقال : فسق عن أمر ربه. الثالث : قال قطرب : فسق عن أمر ربه رده كقوله واسأل القرية واسأل العير قال تعالى :﴿أَفَتَتَّخِذُونَه وَذُرِّيَّتَه ا أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوُّا ﴾ وفيه مسائل :
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤٧٥
المسألة الأولى : المقصود من هذا الكلام أن إبليس تكبر على آدم وترفع عليه لما ادعى أن أصله أشرف من أصل آدم فوجب أن يكون هو أشرف من آدم، فكأنه تعالى قال لأولئك الكافرين الذين افتخروا على فقراء المسلمين بشرف نسبهم وعلو منصبهم، إنكم في هذا القول اقتديتم بإبليس في تكبره على آدم فلما علمتم أن إبليس عدو لكم فكيف تقتدون به في هذه الطريقة المذمومة. هذا هو تقرير الكلام. فإن قيل : إن هذا الكلام لا يتم إلا بإثبات مقدمات. فأولها : إثبات إبليس. وثانيها : إثبات ذرية إبليس. وثالثها : إثبات عداوة بين إبليس وذريته وبين أولاد آدم. ورابعها : أن هذا القول الذي قاله أولئك الكفار اقتدوا فيه بإبليس. وكل هذه المقدمات الأربعة لا سبيل إلى إثباتها إلا بقول النبي محمد صلى الله عليه وسلّم. فالجاهل بصدق النبي جاهل بها. إذا عرفت هذا فنقول المخاطبون بهذه الآيات هل عرفوا كون محمد نبياً صادقاً أو ما عرفوا ذلك ؟
فإن عرفوا كونه نبياً صادقاً قبلوا قوله في كل ما يقوله فكلما نهاهم النبي صلى الله عليه وسلّم عن قول انتهو عنه، وحينئذ فلا حاجة إلى قصة إبليس وإن لم يعرفوا كونه نبياً جهلوا كل هذه المقدمات الأربعة ولم يعرفوا صحتها فحينئذ لا يكون في إيرادها عليهم فائدة والجواب أن المشركين كانوا قد سمعوا قصة إبليس وآدم من أهل الكتاب واعتقدوا صحتها وعلموا أن إبليس إنما تكبر على آدم بسبب نسبه، فإذا أوردنا عليهم هذه القصة كان ذلك زاجراً لهم عما أظهروه مع فقراء المسلمين من التكبر والترفع.
المسألة الثانية : قال الجبائي في هذه الآية دلالة على أنه تعالى لا يريد الكفر ولا يخلقه في العبد، إذ لو أراده وخلقه فيه ثم عاقبه عليه لكان ضرر إبليس أقل من ضرر الله عليهم فكيف يوبخهم بقوله :﴿بِئْسَ لِلظَّـالِمِينَ بَدَلا﴾ ! ؟
تعالى الله عنه علواً كبيراً. بل على هذا المذهب لا ضرر البتة من إبليس بل الضرر كله من الله. والجواب : المعارضة بالداعي والعلم.


الصفحة التالية
Icon