البحث الثاني : قال الكعبي :﴿وَمَآ أَنسَـاـانِيهُ إِلا الشَّيْطَـانُ أَنْ أَذْكُرَه ﴾ يدل على أنه تعالى ما خلق ذلك النسيان وما أراده وإلا كانت إضافته إلى الله تعالى أوجب من إضافته إلى الشيطان لأنه تعالى إذا خلقه فيه لم يكن لسعي الشيطان في وجوده ولا في عدمه، أثر قال القاضي : والمراد بالنسيان أن يشتغل قلب الإنسان بوساوسه التي هي من فعله دون النسيان الذي يضاد الذكر لأن ذلك لا يصح أن يكون إلا من قبل الله تعالى.
البحث الثالث : قوله : أن اذكره بدل من الهاء في أنسانيه أي : وما أنساني ذكره إلا الشيطان ثم قال :﴿وَاتَّخَذَ سَبِيلَه فِى الْبَحْرِ عَجَبًا﴾ وفيه وجوه : الأول : أن قوله عجباً صفة لمصدر محذوف كأنه قيل واتخذ سبيله في البحر اتخاذاً عجباً ووجه كونه عجباً انقلابه من المكتل وصيرورته حياً وإلقاء نفسه في البحر على غفلة منهما. والثاني : أن يكون المراد منه ما ذكرنا أنه تعالى جعل الماء عليه كالطاق وكالسرب. الثالث : قيل إنه تم الكلام عند قوله :﴿وَاتَّخَذَ سَبِيلَه فِى الْبَحْرِ﴾ ثم قال بعده : عجباً والمقصود منه تعجبه من تلك العجيبة التي رآها ومن نسيانه لها وقيل إن قوله عجباً حكاية لتعجب موسى وهو ليس بقوله، ثم قال تعالى :﴿قَالَ ذَالِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ﴾ أي قال موسى ذلك الذي كنا نطلبه لأنه أمارة الظفر بالمطلوب وهو لقاء الخضر وقوله نبغ أصله نبغي فحذفت الياء طلباً للتخفيف لدلالة الكسرة عليه، وكان القياس أن لا يحذف لأنهم إنما يحذفون الياء في الأسماء وهذا فعل إلا أنه قد يجوز على ضعف القياس حذفها لأنها تحذف مع الساكن الذي يكون بعدها كقولك ما نبغي اليوم ؟
فلما حذفت مع الساكن حذفت أيضاً مع غير الساكن ثم قال فارتدا على آثارهما أي / فرجعا وقوله :﴿قَصَصًا﴾ فيه وجهان : أحدهما : أنه مصدر في موضع الحال أي رجعا على آثارهما مقتصين آثارهما. والثاني : أن يكون مصدراً لقوله فارتدا على آثارهما، لأن معناه فاقتصا على آثارهما. وحاصل الكلام أنهما لما عرفا أنهما تجاوزا عن الموضع الذي يسكن فيه ذلك العالم رجعا وعادا إليه والله أعلم.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤٨١
٤٨٥
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله :﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَآ﴾ فيه بحثان :
البحث الأول : قال الأكثرون إن ذلك العبد كان نبياً واحتجوا عليه بوجوه. الأول : أنه تعالى قال :﴿رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَـاهُ﴾ والرحمة هي النبوة بدليل قوله تعالى :﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ﴾ (الزخرف : ٣٢) وقوله :﴿وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَن يُلْقَى ا إِلَيْكَ الْكِتَـابُ إِلا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ﴾ (القصص : ٨٦) والمراد من هذه الرحمة النبوة، ولقائل أن يقول نسلم أن النبوة رحمة أما لا يلزم أن يكون كل رحمة نبوة.
الحجة الثانية : قوله تعالى :﴿وَعَلَّمْنَـاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا﴾ وهذا يقتضي أنه تعالى علمه لا بواسطة تعليم معلم ولا إرشاد مرشد وكل من علمه الله لا بواسطة البشر وجب أن يكون نبياً يعلم الأمور بالوحي من الله. وهذا الاستدلال ضعيف لأن العلوم الضرورية تحصل ابتداء من عند الله وذلك لا يدل على النبوة.
الحجة الثالثة : أن موسى عليه السلام قال :﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى ا أَن﴾ (الكهف : ٦٦) والنبي لا يتبع غير النبي / في التعليم وهذا أيضاً ضعيف، لأن النبي لا يتبع غير النبي في العلوم التي باعتبارها صار نبياً أما في غير تلك العلوم فلا.
الحجة الرابعة : أن ذلك العبد أظهر الترفع على موسى حيث قال له :﴿صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِه خُبْرًا﴾ وأما موسى فإنه أظهر التواضع له حيث قال :﴿وَلا أَعْصِى لَكَ أَمْرًا﴾ وكل ذكل يدل على أن ذلك العالم كان فوق موسى، ومن لا يكون نبياً لا يكون فوق النبي وهذا أيضاً ضعيف لأنه يجوز أن يكون غير النبي فوق النبي في علوم لا تتوقف نبوته عليها. فلم قلتم إن ذلك لا يجوز فإن قالوا لأنه يوجب التنفير. قلنا فارسال موسى إلى التعلم منه بعد إنزال الله عليه التوراة وتكليمه بغير واسطة يوجب التنفير، فإن قالوا : إن هذا لا يوجب التنفير فكذا القول فيما ذكروه.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤٨٥
الحجة الخامسة : احتج الأصم على نبوته بقوله في أثناء القصة :﴿وَمَا فَعَلْتُه عَنْ أَمْرِى ﴾ ومعناه فعلته بوحي الله، وهو يدل على النبوة. وهذا أيضاً دليل ضعيف وضعفه ظاهر.
الحجة السادسة : ما روي أن موسى عليه السلام لما وصل إليه قال السلام عليك، فقال وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل. فقال موسى عليه السلام من عرفك هذا ؟
قال : الذي بعثك إلي. قالوا وهذا يدل على أنه إنما عرف ذلك بالوحي والوحي لا يكون إلا مع النبوة، ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات والإلهامات.


الصفحة التالية
Icon