البحث الثاني : أن موسى عليه السلام لما شاهد ذلك الأمر المنكر بحسب الظاهر نسي الشرط المتقدم فلهذا المعنى قال ما قال، واحتج الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية من وجهين. الأول : أنه ثبت بالدليل أن ذلك العالم كان من الأنبياء، ثم قال موسى عليه السلام :﴿أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا﴾ فإن صدق موسى في هذا القول دل ذلك على صدور الذنب العظيم عن ذلك النبي، وإن كذب دل على صدور الكذب عن موسى عليه السلام. الثاني : أنه التزم أن لا يعترض على ذلك العالم. وجرت العهود المؤكدة لذلك، ثم إنه خالف تلك العهود وذلك ذنب. والجواب عن الأول : أنه لما شاهد موسى عليه السلام منه الأمر الخارج عن العادة قال هذا الكلام، لا لأجل أنه اعتقد فيه أنه فعل قبيحاً، بل لأنه أحب أن يقف على وجهه وسببه، وقد يقال في الشيء العجيب الذي لا يعرف سببه إنه أمر يقال أمر الأمر إذا عظم وقال الشاعر :
داهية دهياء
وعلى الثاني : أنه فعل بناء على النسيان، ثم إنه تعالى حكى عن ذلك العالم أنه لما خالف الشرط لم يزد على أن قال :﴿أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا﴾ فعند هذا اعتذر موسى عليه السلام بقوله :﴿لا تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ﴾ أراد أنه نسي وصيته ولا مؤاخذة على الناسي بشيء :﴿وَلا تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْرًا﴾ يقال : رهقه إذا غشيه وأرهقه إياه أي ولا تغشني من أمري عسراً، وهو اتباعه إياه يعني ولا تعسر على متابعتك ويسرها علي بالإغضاء وترك المناقشة، وقرىء :﴿عُسْرًا﴾ بضمتين.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤٨٦
٤٨٧
اعلم أن لفظ الغلام قد يتناول الشاب البالغ بدليل أنه يقال رأى الشيخ خير من مشهد الغلام جعل الشيخ نقيضاً للغلام وذلك يدل على أن الغلام هو الشاب وأصله من الاغتلام وهو شدة الشبق وذلك إنما يكون في الشباب، وأما تناول هذا اللفظ للصبي الصغير فظاهر، وليس في القرآن كيف لقياه هل كان يلعب مع جمع من الغلمان الصبيان أو كان منفرداً ؟
وهل كان مسلماً أو كان كافراً ؟
وهل كان منعزلاً ؟
وهل كان بالغاً أو كان صغيراً ؟
وكان اسم الغلام بالصغير أليق وإن احتمل الكبير إلا أن قوله :﴿بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾ أليق بالبالغ منه بالصبي لأن الصبي لا يقتل وإن قتل، وأيضاً فهل قتله بأن حز رأسه أو بأن ضرب رأسه بالجدار أو بطريق آخر فليس في لفظ القرآن ما يدل على شيء من هذه الأقسام فعند هذا قال موسى عليه السلام :﴿أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةَا بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْـاًا نُّكْرًا﴾ وفيه مباحث :
البحث الأول : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو زاكية بالألف والباقون زكية بغير ألف قال الكسائي : الزاكية والزكية لغتان ومعناهما الطاهرة، وقال أبو عمرو الزاكية التي لم تذنب والزكية التي أذنبت ثم تابت.
البحث الثاني : ظاهر الآية يدل على أن موسى عليه السلام استبعد أن يقتل النفس إلا لأجل القصاص بالنفس وليس الأمر كذلك لأنه قد يحل دمه بسبب من الأسباب، وجوابه أن السبب الأقوى هو ذلك.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤٨٧


الصفحة التالية
Icon