البحث الرابع : في يأجوج ومأجوج قولان : الأول : أنهما إسمان أعجميان موضوعان بدليل منع الصرف. والقول الثاني : أنهما مشتقان، وقرأ عاصم يأجوج ومأجوج بالهمز. وقرأ الباقون ياجوج وماجوج. وقرىء في رواية آجوج ومأجوج، والقائلون بكون هذين الإسمين مشتقين ذكروا وجوهاً. الأول : قال الكسائي : يأجوج مأخوذ من تأجج النار وتلهبها فلسرعتهم في الحركة سموا بذلك ومأجوج من موج البحر. الثاني : أن يأجوج مأخوذ من تأجج الملح وهو شدة ملوحته فلشدتهم في الحركة سموا بذلك. الثالث : قال القتيبي : هو مأخوذ من قولهم أج الظليم في مشيه يئج أجاً إذا هرول وسمعت حفيفه في عدوه. الرابع : قال الخليل : الأج حب كالعدس والمج مج الريق فيحتمل أن يكونا مأخوذين منهما واختلفوا في أنهما من أي الأقوام فقيل : إنهما من الترك، وقيل :﴿يَأْجُوجَ﴾ من الترك ﴿وَمَأْجُوجَ﴾ من الجيل والديلم ثم من الناس من وصفهم بقصر القامة وصغر الجثة بكون طول أحدهم شبراً ومنهم من وصفهم بطول القامة وكبر الجثة وأثبتوا لهم مخاليب في / الأظفار وأضراساً كأضراس السباع واختلفوا في كيفية إفسادهم في الأرض فقيل : كانوا يقتلون الناس وقيل كانوا يأكلون لحوم الناس وقيل كانوا يخرجون أيام الربيع فلا يتركون لهم شيئاً أخضر وبالجملة فلفظ الفساد محتمل لكل هذه الأقسام والله أعلم بمراده، ثم إنه تعالى حكى عن أهل ما بين السدين أنهم قالوا لذي القرنين :﴿فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى ا أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا﴾ قرأ حمزة والكسائي خراجاً والباقون خرجاً. قيل : الخراج والخرج واحد، وقيل هما أمران متغايران، وعلى هذا القول اختلفوا : قيل : الخرج بغير ألف هو الجعل لأن الناس يخرج كل واحد منهم شيئاً منه فيخرج هذا أشياء وهذا أشياء، والخراج هو الذي يجبيه السلطان كل سنة. وقال الفراء : الخراج هو الإسم الأصلي والخرج كالمصدر وقال قطرب : الخرج الجزية والخراج في الأرض. فقال ذو القرنين :﴿مَا مَكَّنِّى فِيهِ رَبِّى خَيْرٌ فَأَعِينُونِى﴾ أي ما جعلني مكيناً من المال الكثير واليسار الواسع خير مما تبذلون من الخراج فلا حاجة بي إليه، وهو كما قال سليمان عليه السلام :﴿فَمَآ ءَاتَـاـانِاَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّآ ءَاتَـاـاكُم ﴾ (النمل : ٣٦) قرأ ابن كثير :(ما مكنني) بنونين على الإظهار والباقون بنون واحدة مشددة على الإدغام، ثم قال ذو القرنين :﴿فَأَعِينُونِى بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا﴾ أي لا حاجة لي في مالكم ولكن برجال وآلة أبني بها السد، وقيل المعنى : بمال أصرفه إلى هذا المهم ولا أطلب المال لآخذه لنفسي، والردم هو السد. يقال : ردمت الباب أي سددته وردمت الثوب رقعته لأنه يسد الخرق بالرقعة والردم أكثر من السد من قولهم : ثوب مردوم أي وضعت عليه رقاع.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٤٩٩
٥٠٠
اعلم أن ﴿ءَاتُونِى زُبَرَ الْحَدِيدِ ﴾ قطعة قال الخليل الزبرة من الحديد القطعة الضخمة، قراءة الجميع آتوني بمد الألف إلا حمزة فإنه قرأ ائتوني من الإتيان، وقد روى ذلك عن عاصم والتقدير ائتوني بزبر الحديد ثم حذف الباء كقوله : شكرته وشكرت له وكفرته وكفرت له، وقوله :﴿حَتَّى ا إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ﴾ فيه إضمار أي فأتوه بها فوضع تلك الزبر بعضها على بعض حتى صارت بحيث تسد ما بين الجبلين إلى أعلاهما ثم وضع المنافخ عليها حتى إذا صارت كالنار صب النحاس المذاب على الحديد المحمى فالتصق بعضه ببعض وصار جبلاً صلداً، واعلم أن هذا معجز قاهر لأن هذه الزبر الكثيرة إذا نفخ عليها حتى صارت كالنار لم يقدر الحيوان على القرب منها، والنفخ عليها لا يمكن إلا مع القرب منها فكأنه تعالى صرف تأثير تلك الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك النافخين عليها. قال صاحب الكشاف : قيل بعدما بين :﴿السَّدَّيْنِ﴾ مائة فرسخ. بفتحتين جانبا الجبلين لأنهما يتصادفان أي يتقابلان وقرىء :﴿بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ﴾ بضمتين. بضمة وسكون والقطر النحاس المذاب لأنه يقطر، وقوله :﴿عَلَيْهِ قِطْرًا﴾ منصوب بقوله :﴿أُفْرِغْ﴾ وتقديره آتوني قطراً :﴿أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا﴾ فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ثم قال :﴿فَمَا اسْطَـاعُوا ﴾ فحذف التاء للخفة لأن التاء قريبة المخرج من الطاء وقرىء :﴿فَمَا﴾ بقلب السين صاداً ﴿اسْطَـاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ﴾ أن يعلوه أي ما قدروا على الصعود عليه لأجل ارتفاعه وملاسته ولا على نقبه لأجل صلابته وثخانته، ثم قال ذو القرنين :﴿هَـاذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّى ﴾ فقوله هذا إشارة إلى السد، أي هذا السد نعمة من الله ورحمة على عباده أو هذا الاقتدار والتمكين من تسويته :﴿فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّى﴾ يعني فإذا دنا مجيء القيامة جعل السد دكاً أي مدكوكاً مسوى بالأرض. وكل ما انبسط بعد الارتفاع فقد اندك وقرىء دكاء بالمد أي أرضاً مستوية ﴿وَكَانَ وَعْدُ رَبِّى حَقًّا﴾ وههنا آخر حكاية ذي القرنين.


الصفحة التالية
Icon