المسألة الثانية ؛ استدلت المعتزلة بقوله تعالى :﴿فَحَبِطَتْ أَعْمَـالُهُمْ﴾ على أن القول بالإحباط والتكفير حق، وهذه المسألة قد ذكرناه بالاستقصاء في سورة البقرة فلا نعيدها، ثم قال تعالى :﴿فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ وَزْنًا﴾ وفيه وجوه. الأول : أنا نزدري بهم وليس لهم عندنا وزن ومقدار. الثاني : لا نقيم لهم ميزاناً لأن الميزان إنما يوضع لأهل الحسنات والسيئات من الموحدين لتمييز مقدار الطاعات ومقدار السيئات. الثالث : قال القاضي : إن من غلبت معاصيه صار ما في فعله من الطاعة كأن لم يكن فلا يدخل في الوزن شيء من طاعته. وهذا التفسير بناء على قوله بالإحباط والتكفير، ثم قال تعالى :﴿ذَالِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ﴾ فقوله :﴿ذَالِكَ﴾ أي ذلك الذي ذكرناه وفصلناه من أنواع الوعيد هو جزاؤهم على أعمالهم الباطلة، وقوله :﴿جَهَنَّمُ﴾ عطف بيان لقوله :﴿جَزَآؤُهُمْ﴾ ثم بين تعالى أن ذلك الجزاء جزاء على مجموع أمرين : أحدهما : كفرهم. الثاني : أنهم أضافوا إلى / الكفر أن اتخذوا آيات الله واتخذوا رسله هزواً، فلم يقتصروا على الرد عليهم وتكذيبهم حتى استهزأوا بهم.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٥٠٢
٥٠٣
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد أتبعه بالوعد، ولما ذكر في الكفار أن جهنم نزلهم، أتبعه بذكر ما يرغب في الإيمان والعمل الصالح. فقال :﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّـاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا﴾.
المسألة الثانية : عطف عمل الصالحات على الإيمان والمعطوف مغاير للمعطوف عليه وذلك يدل على أن الأعمال الصالحة مغايرة للإيمان.
المسألة الثالثة : عن قتادة الفردوس وسط الجنة وأفضلها، وعن كعب ليس في الجنان أعلى من جنة الفردوس، وفيها الأمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وعن مجاهد الفردوس هو البستان بالرومية، وعن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مسيرة مائة عام والفردوس أعلاها درجة، ومنها الأنهار الأربعة والفردوس من فوقها، فإذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإن فوقها عرش الرحمن ومنها تتفجر أنهار الجنة".
المسألة الرابعة : قال بعضهم إنه تعالى جعل الجنة بكليتها نزلاً للمؤمنين والكريم إذا أعطى النزل أولاً فلا بد أن يتبعه بالخلعة وليس بعد الجنة بكليتها إلا رؤية الله، فإن قالوا : أليس أنه تعالى جعل في الآية الأولى جملة جهنم نزلا الكافرين ولم يبق بعد جملة جهنم عذاب آخر، فكذلك ههنا جعل جملة الجنة نزلاً للمؤمنين مع أنه ليس له شيء آخر بعد الجنة، والجواب : قلنا للكافر بعد حصول جهنم مرتبة أعلى منها وهو كونه محجوباً عن رؤية الله كما قال تعالى :﴿كَلا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَـاـاِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ﴾ (المطففين : ١٥، ١٦) فجعل الصلاء بالنار متأخر في المرتبة عن كونه محجوباً عن الله، ثم قال تعالى :﴿لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا﴾ الحول التحول، يقال : حال من مكانه حولاً كقوله عاد في حبها عوداً يعني لا مزيد على سعادات الجنة وخيراتها حتى يريد أشياء غيرها، وهذا الوصف يدل على غاية الكمال لأن الإنسان في الدنيا إذا وصل إلى أي درجة كانت في السعادات فهو طامح الطرف إلى ما هو أعلى منها.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٥٠٣
٥٠٥
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما ذكر في هذه السورة أنواع الدلائل والبينات وشرح أقاصيص الأولين نبه على كمال حال القرآن فقال :﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَـاتِ رَبِّى﴾ والمداد اسم لما تمد به الدواة من الحبر ولما يمد به السراج من السليط، والمعنى لو كتبت كلمات علم الله وحكمه وكان البحر مداداً لها والمراد بالبحر الجنس لنفد قبل أن تنفد الكلمات، تقرير الكلام أن البحار كيفما فرضت في الاتساع والعظمة فهي متناهية ومعلومات الله غير متناهية والمتناهي لا يفي البتة بغير المتناهي، قرأ حمزة والكسائي ينفد بالياء لتقدم الفعل على الجمع والباقون بالتاء لتأنيث كلمات، وروي أن حيي بن أخطب قال : في كتابكم :﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ (البقرة : ٢٦٩) ثم تقرأون :﴿وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا﴾ (الإسراء : ٨٥) فنزلت هذه الآية يعني أن ذلك خير كثير ولكنه قطرة من بحر كلمات الله.
جزء : ٢١ رقم الصفحة : ٥٠٥


الصفحة التالية
Icon