اعلم أن قوله :﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ﴾ لفظتان، فقوله :﴿وَمَا تِلْكَ﴾ إشارة إلى العصا، وقوله :﴿بِيَمِينِكَ﴾ إشارة إلى اليد، وفي هذا نكت، إحداها : أنه سبحانه لما أشار إليهما جعل كل واحدة منهما معجزاً قاهراً وبرهاناً باهراً، ونقله من حد الجمادية إلى مقام الكرامة، فإذا صار / الجماد بالنظر الواحد حيواناً، وصار الجسم الكثيف نورانياً لطيفاً، ثم إنه تعالى ينظر كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة إلى قلب العبد، فأي عجب لو انقلب قلبه من موت العصيان إلى سعادة الطاعة ونور المعرفة. وثانيها : أن بالنظر الواحد صار الجماد ثعباناً يبتلع سحر السحرة، فأي عجب لو صار القلب بمدد النظر الإلهي بحيث يبتلع سحر النفس الأمارة بالسوء. وثالثها : كانت العصا في يمين موسى عليه السلام فبسبب بركة يمينه انقلبت ثعباناً وبرهاناً، وقلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن فإذا حصلت ليمين موسى عليه السلام هذه الكرامة والبركة، فأي عجب لو انقلب قلب المؤمن بسبب إصبعي الرحمن من ظلمة المعصية إلى نور العبودية، ثم ههنا سؤالات : الأول : قوله :﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَـامُوسَى ﴾ سؤال، والسؤال إنما يكون لطلب العلم وهو على الله تعالى محال فما الفائدة فيه. والجواب فيه فوائد : إحداها : أن من أراد أن يظهر من الشيء الحقير شيئاً شريفاً فإنه يأخذه ويعرضه على الحاضرين ويقول لهم : هذا ما هو ؟
فيقولون هذا هو الشيء الفلاني ثم إنه بعد إظهار صفته الفائقة فيه يقول لهم خذا منه كذا وكذا. فالله تعالى لما أراد أن يظهر من العصا تلك الآيات الشريفة كانقلابها حية، وكضربه البحر حتى انفلق، وفي الحجر حتى انفجر منه الماء، عرضه أولاً على موسى فكأنه قال له : يا موسى هل تعرف حقيقة هذا الذي بيدك وأنه خشبة لا تضر ولا تنفع، ثم إنه قلبه ثعباناً عظيماً، فيكون بهذا الطريق قد نبه العقول على كمال قدرته ونهاية عظمته من حيث إنه أظهر هذه الآيات العظيمة من أهون الأشياء عنده فهذا هو الفائدة من قوله :
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ٢٨
﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَـامُوسَى ﴾. وثانيها : أنه سبحانه لما أطلعه على تلك الأنوار المتصاعدة من الشجرة إلى السماء وأسمعه تسبيح الملائكة ثم أسمعه كلام نفسه، ثم إنه مزج اللطف بالقهر فلاطفه أولاً بقوله :﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ﴾ ثم قهره بإيراد التكاليف الشاقة عليه وإلزامه علم المبدأ والوسط والمعاد ثم ختم كل ذلك بالتهديد العظيم، تحير موسى ودهش وكاد لا يعرف اليمين من الشمال فقيل له :﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَـامُوسَى ﴾ ليعرف موسى عليه السلام أن يمينه هي التي فيها العصا، أو لأنه لما تكلم معه أولاً بكلام الإلهية وتحير موسى من الدهشة تكلم معه بكلام البشر إزالة لتلك الدهشة والحيرة، والنكتة فيه أنه لما غلبت الدهشة على موسى في الحضرة أراد رب العزة إزالتها فسأله عن العصا وهو لا يقع الغلط فيه. كذلك المؤمن إذا مات ووصل إلى حضرة ذي الجلال فالدهشة تغلبه والحياء يمنعه عن الكلام فيسألونه عن الأمر الذي لم يغلط فيه في الدنيا وهو التوحيد، فإذا ذكره زالت الدهشة والوحشة عنه. وثالثها : أنه تعالى لما عرف موسى كمال الإلهية أراد أن يعرفه نقصان البشرية، فسأله عن منافع العصا فذكر بعضها فعرفه الله تعالى أن فيها منافع أعظم مما ذكر/ تنبيهاً على أن العقول قاصرة عن معرفة صفات النبي الحاضر فلولا التوفيق والعصمة كيف يمكنهم الوصول إلى معرفة أجل الأشياء وأعظمها. ورابعها : فائدة هذا السؤال أن يقرر عنده أنه خشبة حتى إذا قلبها ثعباناً لا يخافها. السؤال الثاني : قوله :﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَـامُوسَى ﴾ خطاب من الله تعالى مع موسى عليه السلام بلا واسطة، ولم يحصل ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلّم فيلزم أن يكون موسى أفضل من محمد. الجواب من وجهين : الأول : أنه تعالى كما خاطب موسى فقد خاطب محمداً عليه السلام في قوله :﴿فَأَوْحَى ا إِلَى عَبْدِه مَآ أَوْحَى ﴾ (النجم : ١٠) إلا أن الفرق بينهما أن الذي ذكره مع موسى عليه السلام أفشاه الله إلى الخلق، والذي ذكره مع محمد صلى الله عليه وسلّم كان سراً لم يستأهل له أحد من الخلق. والثاني : إن كان موسى تكلم معه وهو (تكلم) مع موسى فأمة محمد صلى الله عليه وسلّم يخاطبون الله في كل يوم مرات على ما قال صلى الله عليه وسلّم :"المصلي يناجي ربه" والرب يتكلم مع آحاد أمة محمد صلى الله عليه وسلّم يوم القيامة بالتسليم والتكريم والتكليم في قوله :
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ٢٨


الصفحة التالية
Icon