﴿رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى﴾ فإن البحار عميقة والظلمات متكاثفة، وفي الطريق قطاع من الأعداء الداخلة والخارجة وشياطين الإنس والجن كثيرة فإن لم تشرح لي صدري ولم تكن لي عوناً في كل الأمور انقطعت، وصارت هذه الخلع سبباً لنيل الآفات لا للفوز بالدرجات. فهذا هو المراد من قوله :﴿رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى﴾ ثم قال :﴿وَيَسِّرْ لِى أَمْرِى﴾ وذلك لأن كل ما يصدر من العبد من الأفعال والأقوال والحركات والسكنات فما لم يصر العبد مريداً له استحال أن يصير فاعلاً له، فهذه الإرادة صفة محدثة ولا بد لها من فاعل وفاعلها إن كان هو العبد افتقر في تحصيل تلك الإرادة إلى إرادة أخرى، ولزم التسلسل بل لا بد من الانتهاء إلى إرادة يخلقها مدبر العالم فيكون في الحقيقة هو الميسر للأمور وهو المتمم لجميع الأشياء وتمام التحقيق أن حدوث الصفة لا بد له من قابل وفاعل فعبر عن استعداد القابل بقوله :﴿رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى﴾ وعبر عن حصول الفاعل بقوله :﴿وَيَسِّرْ لِى أَمْرِى﴾ وفيه التنبيه على أنه سبحانه وتعالى هو الذي يعطي القابل قابليته والفاعل فاعليته، ولهذا كان السلف رضي الله عنهم يقولون : يا مبتدئاً بالنعم قبل استحقاقها. ومجموع هذين الكلامين كالبرهان القاطع على أن جميع الحوادث في هذا العالم واقعة بقضائه وقدره وحكمته وقدرته. ويمكن أن يقال أيضاً : كأن موسى عليه السلام قال : إلهي لا أكتفي بشرح الصدر ولكن أطلب منك تنفيذ الأمر وتحصيل الغرض فلهذا قال :﴿وَيَسِّرْ لِى أَمْرِى﴾ أو يقال : إنه سبحانه وتعالى لما أعطاه الخلع الأربع وهي الوجود والحياة والقدرة والعقل فكأنه قال له يا موسى أعطيتك هذه الخلع الأربع فلا بد في / مقابلتها من خدمات أربع لتقابل كل نعمة بخدمة. فقال موسى عليه السلام : ما تلك الخدمات ؟
فقال : وأقم الصلاة لذكري فإن فيها أنواعاً أربعة من الخدمة، القيام والقراءة والركوع والسجود فإذا أتيت بالصلاة فقد قابلت كل نعمة بخدمة، ثم إنه تعالى لما أعطاه الخلعة الخامسة وهي خلعة الرسالة قال :﴿رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى﴾ حتى أعرف أني بأي خدمة أقابل هذه النعمة فقيل له بأن تجتهد في أداء هذه الرسالة على الوجه المطلوب فقال موسى : يا رب إن هذا لا يتأتى مني مع عجزي وضعفي وقلة آلاتي وقوة خصمي فاشرح لي صدري ويسر لي أمري. الفصل الثاني : في قوله :
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ٤٦
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى﴾ اعلم أن الدعاء سبب القرب من الله تعالى وإنما اشتغل موسى بهذا الدعاء طلباً للقرب فتفتقر إلى بيان أمرين إلى بيان أن الدعاء سبب القرب ثم إلى بيان أن موسى عليه السلام طلب القرب بهذا الدعاء، أما بيان أن الدعاء سبب القرب فيدل عليه وجوه. الأول : أن الله تعالى ذكر السؤال والجواب في كتابه في عدة مواضع منها أصولية ومنها فروعية، أما الأصولية فأولها في البقرة :﴿يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّةِا قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ﴾ (البقرة : ١٨٩). وثانيها : في بني إسرائيل ﴿وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِا قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى﴾. وثالثها :﴿وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّى نَسْفًا﴾ (طه : ١٠٥). ورابعها :﴿يَسْـاَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَـاـاهَا﴾ (النازعات : ٤٢) وأما الفروعية فستة منها في البقرة على التوالي. أحدها :﴿يَسْـاَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَا قُلْ مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالاقْرَبِينَ﴾ (البقرة : ٢١٥) وثانيها :﴿يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيه قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ﴾ (البقرة : ٢١٧). وثالثها :﴿يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِا قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ﴾ (البقرة : ٢١٩). ورابعها :﴿يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِا قُلْ﴾ (البقرة : ٢١٩). وخامسها :﴿فِى الدُّنْيَا وَالاخِرَةِا وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْيَتَـامَى ا قُلْ﴾ (البقرة : ٢٢٠). وسادسها :﴿وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِا قُلْ هُوَ أَذًى﴾ (البقرة : ٢٢٢). وسابعها :﴿يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الانفَالِا قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ (الأنفال : ١). وثامنها :﴿وَيَسْـاَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِا قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا﴾ (الكهف : ٨٣). وتاسعها :﴿وَيَسْتَنابِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَا قُلْ إِى وَرَبِّى إِنَّه لَحَقٌّ ﴾ (يونس : ٥٣). وعاشرها :
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ٤٦


الصفحة التالية
Icon