الفصل الثالث : في قوله :﴿رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى﴾ وفيه وجوه : أحدها : أنه تعالى لما خاطبه بالأشياء الستة (التي) أحدها : معرفة التوحيد :﴿إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا ﴾ (طه : ١٤)، وثانيها : أمره بالعبادة والصلاة :﴿إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا﴾ (طه : ١٤)، وثالثها : معرفة الآخرة :﴿إِنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ﴾ (طه : ١٥) / ورابعها : حكمة أفعاله في الدنيا :﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَـامُوسَى ﴾ (طه : ١٧)، وخامسها : عرض المعجزات الباهرة عليه :﴿لِنُرِيَكَ مِنْ ءَايَـاتِنَا الْكُبْرَى﴾ (طه : ٢٣)، وسادسها : إرساله إلى أعظم الناس كفراً وعتواً فكانت هذه التكاليف الشاقة سبباً للقهر فأراد موسى عليه السلام جبر هذا القهر بالمعجز فعرفه أن كل من سأله قرب منه فقال :﴿رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى﴾ فأراد جبر القهر الحاصل من هذه التكاليف بالقرب منه فقال :﴿رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى﴾ أو يقال خاف شياطين الإنس والجن فدعا ليصل بسبب الدعاء إلى مقام القرب فيصير مأموناً من غوائل شياطين الجن والإنس. وثانيها : أن المراد أنه أراد الذهاب إلى فرعون وقومه فأراد أن يقطع طمع الخلق عن نفسه بالكلية فعرف أن من دعا ربه قربه له وقربه لديه فحينئذ تنقطع الأطماع بالكلية فقال :﴿رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى﴾. وثالثها : الوجود كالنور والعدم كالظلمة وكل ما سوى الله تعالى فهو عدم محض فكل شيء هالك إلا وجهه فالكل كأنهم في ظلمات العدم وإظلال عالم الأجسام والإمكان فقال :﴿رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى﴾ حتى يجلس قلبي في بهي ضوء المعرفة وسادة شرح الصدر والجالس في الضوء لا يرى من كان جالساً في الظلمة فحين جلس في ضوء شرح الصدر لا يرى أحداً في الوجود فلهذا عقبه بقوله :﴿وَيَسِّرْ لِى أَمْرِى﴾ فإن العبد في مقام الاستغراق لا يتفرغ لشيء من المهمات. ورابعها : رب اشرح لي صدري فإن عين العين ضعيفة فأطلع يا إلهي شمس التوفيق حتى أرى كل شيء كما هو، وهذا في معنى قول محمد صلى الله عليه وسلّم :"أرنا الأشياء كما هي" واعلم أن شرح الصدر مقدمة لسطوع الأنوار الإلهية في القلب والاستماع مقدمة الفهم الحاصل من سماع الكلا فالله تعالى أعطى موسى عليه السلام المقدمة الثانية وهي فاستمع لما يوحى فلا جرم نسج موسى على ذلك المنوال فطلب المقدمة الأخرى فقال :
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ٤٦
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى﴾ ولما آل الأمر إلى محمد صلى الله عليه وسلّم قيل له :﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْمًا﴾ (طه : ١١٤) والعلم هو المقصود، فلما كان موسى عليه السلام كالمقدمة لمقدم محمد صلى الله عليه وسلّم لا جرم أعطى المقدمة، ولما كان محمد كالمقصود لا جرم أعطى المقصود فسبحانه ما أدق حكمته في كل شيء. وسادسها : الداعي له صفتان : إحداهما : أن يكون عبداً للرب :﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾ (البقرة : ١٨٦). وثانيتهما : أن يكون الرب له :﴿وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ (غافر : ٦٠) أضاف نفسه إلينا وما أضافنا إلى نفسه والمشتغل بالدعاء قد صار كاملاً من هذين الوجهين فأراد موسى عليه السلام أن يرتع في هذا البستان فقال :﴿رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى﴾. وسابعها : أن موسى عليه السلام شرفه الله تعالى بقوله :﴿وَقَرَّبْنَـاهُ نَجِيًّا﴾ (مريم : ٥٢) فكأن موسى عليه السلام قال إلهي لما قلت :﴿وَقَرَّبْنَـاهُ نَجِيًّا﴾ صرت قريباً منك ولكن أريد قربك مني فقال يا موسى أما سمعت قولي :﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾ فأشتغل بالدعاء حتى أصير قريباً منك فعند ذلك :﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى﴾. وثامنها : قال موسى عليه السلام :﴿رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى﴾ وقال لمحمد صلى الله عليه وسلّم :﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ (الشرح : ١) ثم إنه تعالى ما تركه على هذه الحالة بل قال :﴿وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾ (الأحزاب : ٤٦) فانظر إلى التفاوت فإن شرح الصدر هو أن يصير الصدر / قابلاً للنور والسراج المنير هو أن يعطي النور فالتفاوت بين موسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلّم كالتفاوت بين الآخذ والمعطي ثم نقول إلهنا إن ديننا وهي كلمة لا إله إلا الله نور، والوضوء نور، والصلاة نور، والقبر نور، والجنة نور، فبحق أنوارك التي أعطيتنا في الدنيا لا تحرمنا أنوار فضلك وإحسانك يوم القيامة. الفصل الرابع : في قوله :﴿رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى﴾ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن شرح الصدر فقال : نور يقذف في القلب، فقيل : وما أمارته فقال : التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل النزول، ويدل على أن شرح الصدر عبارة عن النور قوله تعالى :
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ٤٦


الصفحة التالية
Icon