الخندق عظيماً والسور قوياً عجز عسكر الشيطان عن تخريبه فرجعوا وراءهم وتركوا القلعة كما كانت وإن كان خندق الزهد غير عميق وسور حب الآخرة غير قوي قدر الخصم على استفتاح قلعة الصدر فيدخلها ويبيت فيها جنوده من الهوى والعجب والكبر والبخل وسوء الظن بالله تعالى والنميمة والغيبة فينحصر الملك في القصر ويضيق الأمر عليه فإذا جاء مدد التوفيق وأخرج هذا العسكر من القلعة انفسح الأمر وانشرح الصدر وخرجت ظلمات الشيطان ودخلت أنوار هداية رب العالمين وذلك هو المراد بقوله :
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ٤٦
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى﴾. المثال الثاني : اعلم أن معدن النور هو القلب واشتغال الإنسان بالزوجة والولد والرغبة في مصاحبة الناس والخوف من الأعداء هو الحجاب المانع من وصول نور شمس القلب إلى فضاء الصدر فإذا قوى الله بصيرة العبد حتى طالع عجز الخلق وقلة فائدتهم في الدارين صغروا في عينه ولا شك في أنهم من حيث هم عدم محض على ما قال تعالى :﴿كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَه ﴾ (القصص : ٨٨) فلا يزال العبد يتأمل فيما سوى الله تعالى إلى أن يشاهد أنهم عدم محض فعند ذلك يزول / الحجاب بين قلبه وبين أنوار جلال الله تعالى وإذا زال الحجاب امتلأ القلب من النور فذلك هو انشراح الصدر.
الفصل السادس : في الصدر علم أنه يجيء والمراد منه القلب :﴿أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَه لِلاسْلَـامِ﴾ (الزمر : ٢٢)، ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى﴾، ﴿وَحُصِّلَ مَا فِى الصُّدُورِ﴾ (العاديات : ١٠)، ﴿يَعْلَمُ خَآاـاِنَةَ الاعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ﴾ (غافر : ١٩) وقد يجيء والمراد الفضاء الذي فيه الصدر :﴿فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الابْصَـارُ وَلَـاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ﴾ (الحج : ٤٦) واختلف الناس في أن محل العقل هل هو القلب أو الدماغ وجمهور المتكلمين على أنه القلب، وقد شرحنا هذه المسألة في سورة الشعراء في تفسير قوله :﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ * عَلَى قَلْبِكَ﴾ (الشعراء : ١٩٣، ١٩٤) وقال بعضهم المواد أربعة : الصدر والقلب والفؤاد واللب فالصدر مقر الإسلام :﴿أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَه لِلاسْلَـامِ﴾ (الزمر : ٢٢) والقلب مقر الإيمان :﴿وَلَـاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمَـانَ وَزَيَّنَه فِى قُلُوبِكُمْ﴾ (الحجرات : ٧) والفؤاد مقر المعرفة :﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾ (النجم : ١١)، ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْـاُولا﴾ (الإسراء : ٣٦) واللب مقر التوحيد :﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الالْبَـابِ﴾ (الرعد : ١٩) واعلم أن القلب أول ما بعث إلى هذا العالم بعث خالياً عن النقوش كاللوح الساذج وهو في عالم البدن كاللوح المحفوظ، ثم إنه تعالى يكتب فيه بقلم الرحمة والعظمة كل ما يتعلق بعالم العقل من نقوش الموجودات وصور الماهيات وذلك يكون كالسطر الواحد إلى آخر قيام القيامة لهذا العالم الأصغر وذلك هو الصورة المجردة والحالة المطهرة، ثم إن العقل يركب سفينة التوفيق ويلقيها في بحار أمواج المعقولات وعوالم الروحانيات فيحصل من مهاب رياح العظمة والكبرياء رخاء السعادة تارة ودبور الإدبار أخرى، فربما وصلت سفينة النظر إلى جانب مشرق الجلال فتسطع عليه أنوار الإلهية ويتخلص العقل عن ظلمات الضلالات، وربما توغلت السفينة في جنوب الجهالات فتنكسر وتغرق فحيثما تكون السفينة في ملتطم أمواج العزة يحتاج حافظ السفينة إلى التماس الأنوار والهدايات فيقول هناك :
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ٤٦
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى﴾ واعلم أن العقل إذا أخذ في الترقي من سفل الإمكان إلى علو الوجوب كثر اشتغاله بمطالعة الماهيات ومقارفة المجردات والمفارقات، ومعلوم أن كل ماهية فهي إما هي معه أو هي له، فإن كانت هي معه امتلأت البصيرة من أنوار جلال العزة الإلهية فلا يبقى هناك مستطلعاً لمطالعة سائر الأنوار فيضمحل كل ما سواه من بصر وبصيرة، وإن وقعت المطالعة لما هو له حصلت هناك حالة عجيبة، وهي أنه لو وضعت كرة صافية من البلور فوقع عليها شعاع الشمس فينعكس ذلك الشعاع إلى موضع معين فذلك الموضع الذي إليه تنعكس الشعاعات يحترق فجميع الماهيات الممكنة كالبلور الصافي الموضوع في مقابلة شمس القدس ونور العظمة ومشرق الجلال، فإذا وقع للقلب التفات إليها حصلت للقلب نسبة إليها بأسرها فينعكس شعاع كبرياء الإلهية عن كل واحد منها إلى القلب فيحترق القلب، ومعلوم أنه كلما كان المحرق أكثر، كان الإحتراق أتم فقال :﴿رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى﴾ حتى أقوى على إدراك درجات الممكنات فأصل إلى / مقام الاحتراق بأنوار الجلال، وهذا هو المراد بقوله عليه السلام :"أرنا الأشياء كما هي" فلما شاهد احتراقها بأنوار الجلال قال :"لا أحصى ثناء عليك".


الصفحة التالية
Icon