السؤال الثاني : لم قال مرة أخرى مع أنه تعالى ذكر منناً كثيرة ؟
والجواب : لم يعن بمرة أخرى مرة واحدة من المنن لأن ذلك قد يقال في القليل والكثير. واعلم أن المنن المذكورة ههنا ثمانية : المنة الأولى : قوله :﴿إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَى ا أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِى التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِى الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّى وَعَدُوٌّ لَّه ﴾ أما قوله :﴿إِذْ أَوْحَيْنَآ﴾ فقد اتفق الأكثرون على أن أم موسى عليه السلام ما كانت من الأنبياء والرسل فلا يجوز أن يكون المراد من هذا الوحي هو الوحي الواصل إلى الأنبياء وكيف لا نقول ذلك والمرأة لا تصلح للقضاء والإمامة بل عند الشافعي رحمه الله لا تمكن من تزويجها نفسها فكيف تصلح للنبوة ويدل عليه قوله تعالى :﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالا نُّوحِى إِلَيْهِمْ ﴾ (الأنبياء : ٧) وهذا صريح في الباب، وأيضاً فالوحي قد جاء في القرآن لا بمعنى النبوة قال تعالى :﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ (النحل : ٦٨) وقال :﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّـانَ﴾ (المائدة : ١١١) ثم اختلفوا في المراد بهذا الوحي على وجوه : أحدها : المراد رؤيا رأتها أم موسى عليه السلام وكان تأويلها وضع موسى عليه السلام في التابوت وقذفه في البحر وأن الله تعالى يرده إليها. وثانيها : أن المراد عزيمة جازمة وقعت في قلبها دفعة واحدة فكل من تفكر فيما وقع إليه ظهر له الرأي الذي هو أقرب إلى الخلاص ويقال لذلك الخاطر إنه وحي. وثالثها : المراد منه الإلهام لكنا / متى بحثنا عن الإلهام كان معناه خطور رأي بالبال وغلبة على القلب فيصير هذا هوالوجه الثاني وهذه الوجوه الثلاثة يعترض عليها بأن الإلقاء في البحر قريب من الإهلاك وهو مساوٍ للخوف الحاصل من القتل المعتاد من فرعون فكيف يجوز الإقدام على أحدهما لأجل الصيانة عن الثاني. والجواب : لعلها عرفت بالاستقراء صدق رؤياها فكان إفضاء الإلقاء في البحر إلى السلامة أغلب على ظنها من وقوع الولد في يد فرعون. ورابعها : لعله أوحى إلى بعض الأنبياء في ذلك الزمان كشعيب عليه السلام أو غيره ثم إن ذلك النبي عرفها، إما مشافهة أو مراسلة، واعترض عليه بأن الأمر لو كان كذلك لما لحقها من أنواع الخوف ما لحقها. والجواب : أن ذلك الخوف كان من لوازم البشرية كما أن موسى عليه السلام كان يخاف فرعون مع أن الله تعالى كان يأمره بالذهاب إليه مراراً. وخامسها : لعل الأنبياء المتقدمين كإبراهيم وإسحق ويعقوب عليهم السلام أخبروا بذلك وانتهى ذلك الخبر إلى تلك المرأة. وسادسها : لعل الله تعالى بعث إليها ملكاً لا على وجه النبوة كما بعث إلى مريم في قوله :﴿فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾ (مريم : ١٧) وأما قوله :﴿مَا يُوحَى ﴾ فمعناه وأوحينا إلى أمك ما يجب أن يوحى وإنما وجب ذلك الوحي لأن الواقعة واقعة عظيمة ولا سبيل إلى معرفة المصلحة فيها إلا بالوحي فكان الوحي واجباً أما قوله تعالى :﴿أَنِ اقْذِفِيهِ﴾ ففيه مسائل :
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ٥٣
المسألة الأولى : أن هي المفسرة لأن الوحي بمعنى القول.
المسألة الثانية : القذف مستعمل في معنى الإلقاء والوضع ومنه قوله تعالى :﴿وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾ (الأحزاب : ٢٦).
المسألة الثالثة : روى أنها اتخذت تابوتاً وجعلت فيه قطناً محلوجاً ووضعت فيه موسى عليه السلام وقيرت رأسه وشقوقه بالقار ثم ألقته في النيل وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون فبينا هو جالس على رأس البركة مع امرأته آسية إذ بتابوت يجيء به الماء فلما رآه فرعون أمر الغلمان والجواري بإخراجه فأخرجوه وفتحوا رأسه فإذا صبي من أصبح الناس وجهاً فلما رآه فرعون أحبه وسيأتي تمام القصة في سورة القصص، قال مقاتل : إن الذي صنع التابوت حزقيل مؤمن آل فرعون.
المسألة الرابعة : اليم هو البحر والمراد به ههنا نيل مصر في قول الجميع واليم اسم يقع على البحر وعلى النهر العظيم.
المسألة الخامسة : قال الكسائي الساحل فاعل بمعنى مفعول سمي بذلك لأن الماء يسحله أي يقذفه إلى أعلاه.
المسألة السادسة : قال صاحب "الكشاف" الضمائر كلها راجعة إلى موسى عليه السلام ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت يؤدي إلى تنافر النظم فإن قيل المقذوف في البحر هو التابوت وكذلك الملقى إلى الساحل قلنا لا بأس بأن يقال المقذوف والملقى هو موسى عليه السلام / في جوف التابوت حتى لا تتفرق الضمائر ولا يحصل التنافر.
المسألة السابعة : لما كان تقدير الله تعالى أن يجري ماء اليم ويلقي بذلك التابوت إلى الساحل سلك في ذلك سبيل المجاز وجعل اليم كأنه ذو تمييز أمر بذلك ليطيع الأمر ويمتثل رسمه فقيل فليلقه اليم بالساحل أما قوله :﴿يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّى وَعَدُوٌّ لَّه ﴾ ففيه أبحاث :
البحث الأول : قوله :﴿يَأْخُذْهُ﴾ جواب الأمر أي اقذفيه يأخذه.


الصفحة التالية
Icon