السؤال الرابع : لما تكرر الأمر من الله تعالى بالذهاب فعدم الذهاب والتعلل بالخوف هل يدل على المعصية. الجواب : لو اقتضى الأمر الفور لكان ذلك من أقوى الدلائل على المعصية لا سيما وقد أكثر الله تعالى من أنواع التشريف وتقوية القلب وإزالة الغم ولكن ليس الأمر على الفور فزال السؤال وهذا من أقوى الدلائل على أن الأمر لا يقتضي الفور إذا ضممت إليه ما يدل على أن المعصية غير جائزة على الرسل أما قوله تعالى :﴿أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَى ﴾ فاعلم أن في :﴿أَن يَفْرُطَ﴾ وجوهاً. أحدها : فرط سبق وتقدم ومنه الفارط الذي يتقدم الواردة وفرس فرط يسبق الخيل والمعنى نخاف أن يعجل علينا بالعقوبة. وثانيها : أنه مأخوذ من أفرط غيره إذا حمله على العجلة فكان موسى وهرون عليهما السلام خافا من أن يحمله حامل على المعاجلة بالعقوبة وذلك الحامل هو إما الشيطان أو إدعاؤه للربوبية أو حبه للرياسة أو قومه وهم القبط المتمردون الذين حكى الله تعالى عنهم :﴿قَالَ الْمَلا مِن قَوْمِه ﴾ (الأعراف : ٦٠). وثالثها : يفرط من الإفراط في الأذية أما قوله :﴿أَوْ أَن يَطْغَى ﴾ فالمعنى يطغى بالتخطي إلى أن يقول فيك ما لا ينبغي لجراءته عليك واعلم أن من أمر بشيء فحاول دفعه بأعذار يذكرها فلا بد وأن يختم كلامه بما هو الأقوى وهذا كما أن الهدهد ختم عذره بقوله :﴿وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ (النمل : ٢٤) فكذا ههنا بدأ موسى بقوله :﴿أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ﴾ وختم بقوله :﴿أَوْ أَن يَطْغَى ﴾ لما أن طغيانه في حق الله تعالى أعظم من إفراطه في حق موسى وهرون عليهما السلام. أما قوله :﴿قَالَ لا تَخَافَآا إِنَّنِى مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾ فالمراد لا تخافا مما عرض في قلبكما من الإفراط والطغيان لأن ذلك هو المفهوم من الكلام يبين ذلك أنه تعالى لم يؤمنهما من الرد ولا من التكذيب بالآيات ومعارضة السحرة أما قوله :﴿إِنَّنِى مَعَكُمَآ﴾ فهو عبارة عن الحراسة والحفظ وعلى هذا الوجه يقال : الله معك على وجه الدعاء وأكد ذلك بقوله :﴿أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾ فإن من يكون مع الغير وناصراً له وحافظاً / يجوز أن لا يعلم كل ما يناله وإنما يحرسه فيما يعلم فبين سبحانه وتعالى أنه معهما بالحفظ والعلم في جميع ما ينالهما وذلك هو النهاية في إزالة الخوف قال القفال قوله :
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ٥٦
﴿أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾ يحتمل أن يكون مقابلاً لقوله :﴿أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَى ﴾ والمعنى :﴿يَفْرُطَ عَلَيْنَآ﴾ بأن لا يسمع منا :﴿أَوْ أَن يَطْغَى ﴾ بأن يقتلنا فقال الله تعالى :﴿إِنَّنِى مَعَكُمَآ﴾ أسمع كلامه معكما فأسخره للاستماع منكما وأرى أفعاله فلا أتركه حتى يفعل بكما ما تكرهانه، واعلم أن هذه الآية تدل على أن كونه تعالى سميعاً وبصيراً صفتان زائدتان على العلم لأن قوله :﴿إِنَّنِى مَعَكُمَآ﴾ دل على العلم فقوله :﴿أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾ لو دل على العلم لكان ذلك تكريراً وهو خلاف الأصل ثم إنه سبحانه أعاد ذلك التكليف فقال :﴿فَأْتِيَاهُ﴾ لأنه سبحانه وتعالى قال في المرة الأولى :﴿لِنُرِيَكَ مِنْ ءَايَـاتِنَا الْكُبْرَى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ﴾ (طه : ٢٣، ٢٤) وفي الثانية :﴿اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ﴾ وفي الثالثة :﴿اذْهَبَآ إِلَى فِرْعَوْنَ﴾ (طه : ٤٣) وفي الرابعة قال ههنا فأتياه فإن قيل إنه تعالى أمرهما في المرة الثانية بأن يقولا له :﴿قَوْلا لَّيِّنًا﴾ (طه : ٤٤) وفي هذه المرة الرابعة أمرهما :﴿فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسرائيل ﴾ وفيه تغليظ من وجوه : أحدها : أن قوله :﴿إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ﴾ فيه أبحاث :
البحث الأول : انقياده إليهما والتزامه لطاعتهما وذلك يعظم على الملك المتبوع.
البحث الثاني : قوله :﴿فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسرائيل ﴾ فيه إدخال النقص على ملكه لأنه كان محتاجاً إليهم فيما يريده من الأعمال من بناء أو غيره.
البحث الثالث : قوله :﴿وَلا تُعَذِّبْهُمْ ﴾.
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ٥٦


الصفحة التالية
Icon