المسألة الثانية : اختلفوا في المراد بالزرقة على وجوه : أحدها : قال الضحاك ومقاتل : يعني زرق العيون سود الوجوه وهي زرقة تتشوه بها خلقتهم والعرب تتشاءم بذلك، فإن قيل : أليس أن الله تعالى أخبر أنهم : يحشرون عمياً فكيف يكون أعمى وأزرق ؟
قلنا : لعله يكون أعمى في حال وأزرق في حال. وثانيها : المراد من الزرقة العمى. قال الكلبي : زرقاً أي عمياً، قال الزجاج : يخرجون بصراء في أول مرة ويعمون في المحشر. وسواد العين إذا ذهب تزرق فإن قيل : كيف يكون أعمى، وقد قال تعالى :﴿إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الابْصَـارُ﴾ وشخوص البصر من الأعمى محال، وقد قال في حقهم :﴿اقْرَأْ كِتَـابَكَ﴾ (الإسراء : ١٤) والأعمى كيف يقرأ. فالجواب : أن أحوالهم قد تختلف. وثالثها : قال أبو مسلم : المراد بهذه الزرقة شخوص أبصارهم والأزرق شاخص لأنه لضعف بصره يكون محدقاً نحو الشيء يريد أن يتبينه وهذه حال الخائف المتوقع لما يكره وهو كقوله :﴿إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الابْصَـارُ﴾ (إبراهيم : ٤١). ورابعها : زرقاً عطاشاً هكذا رواه ثعلب عن ابن الأعرابي قال : لأنهم من شدة / العطش يتغير سواد عيونهم حتى تزرق ويدل على هذا التفسير قوله تعالى :﴿وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا﴾ (مريم : ٨٦). وخامسها : حكى ثعلب عن ابن الأعرابي قال : طامعين فيما لا ينالونه. الصفة الثالثة : من صفات الكفار يوم القيامة قوله تعالى :﴿يَتَخَـافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا﴾ وفيه مسائل :
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ٩٩
المسألة الأولى : يتخافتون أي يتسارون. يقال : خفت يخفت وخافت مخافتة والتخافت السرار وهو نظير قوله تعالى :﴿فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا﴾ (طه : ١٠٨) وإنما يتخافتون لأنه امتلأت صدورهم من الرعب والهول أو لأنهم صاروا بسبب الخوف في نهاية الضعف فلا يطيقون الجهر.
المسألة الثانية : اختلفوا في أن المراد بقوله :﴿إِن لَّبِثْتُمْ﴾ اللبث في الدنيا أو في القبر، فقال قوم أرادوا به اللبث في الدنيا، وهذا قول الحسن وقتادة والضحاك، واحتجوا عليه بقوله تعالى :﴿قَـالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الارْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْـاَلِ الْعَآدِّينَ﴾ (المؤمنون : ١١٢، ١١٣) فإن قيل : إما أن يقال إنهم نسوا قدر لبثهم في الدنيا، أو ما نسوا ذلك، والأول غير جائز إذ لو جاز ذلك لجاز أن يبقى الإنسان خمسين سنة في بلد ثم ينساه. والثاني : غير جائز لأنه كذب وأهل الآخرة لا يكذبون لا سيما وهذا الكذب لا فائدة فيه قلنا فيه وجوه : أحدها : لعلهم إذا حشروا في أول الأمر وعاينوا تلك الأهوال فلشدة وقعها عليهم ذهلوا عن مقدار عمرهم في الدينا وما ذكروا إلا القليل فقالوا : ليتنا ما عشنا إلا تلك الأيام القليلة في الدنيا حتى لا نقع في هذه الأهوال، والإنسان عند الهول الشديد قد يذهل عن أظهر الأشياء وتمام تقريره مذكور في سورة الأنعام في قوله :﴿ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلا أَن قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ (الأنعام : ٢٣). وثانيها : أنهم عالمون بمقدار عمرهم في الدنيا إلا أنهم لما قابلوا أعمارهم في الدنيا بأعمار الآخرة وجدوها في نهاية القلة فقال بعضهم : ما لبثنا في الدنيا إلا عشرة أيام وقال أعقلهم : بل ما لبثنا إلا يوماً واحداً أي قدر لبثنا في الدنيا بالقياس إلى قدر لبثنا في الآخرة كعشرة أيام بل كاليوم الواحد بل كالعدم/ وإنما خص العشرة والواحد بالذكر لأن القليل في أمثال هذه الواضع لا يعبر عنه إلا بالعشرة والواحد. وثالثها : أنهم لما عاينوا الشدائد تذكروا أيام النعمة والسرور وتأسفوا عليها فوصفوها بالقصر لأن أيام السرور قصار. ورابعها : أن أيام الدنيا قد انقضت وأيام الآخرة مستقبلة والذاهب وإن طالت مدته قليل بالقياس إلى الآتي وإن قصرت مدته فكيف والأمر بالعكس ولهذه الوجوه رجح الله تعالى قول من بالغ في التقليل فقال :﴿إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا﴾. القول الثاني : أن المراد منه اللبث في القبر ويعضده قوله تعالى :﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍا كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ﴾ (الروم : ٥٥) وقال :﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالايمَـانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتَـابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ ﴾ (الروم : ٥٦) فأما من جوز الكذب على أهل القيامة فلا إشكال له في الآية، أما من لم يجوز، قال : إن الله تعالى لما أحياهم في القبر وعذبهم ثم أماتهم ثم بعثهم يوم القيامة لم يعرفوا أن قدر لبثهم في القبر كم كان، فخطر ببال بعضهم أنه في تقدير عشرة أيام، وقال آخرون : إنه يوم / واحد، فلما وقعوا في العذاب مرة أخرى، تمنوا زمان الموت الذي هو زمان الخلاص لما نالهم من هول العذاب.


الصفحة التالية
Icon