المسألة الثالثة : المعتزلة احتجوا على حدوث القرآن بهذه الآية فقالوا : القرآن ذكر والذكر محدث فالقرآن محدث، بيان أن القرآن ذكر قوله تعالى في صفة القرآن :﴿إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِّلْعَـالَمِينَ﴾ (ص : ٨٧) وقوله :﴿وَإِنَّه لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ﴾ (الزخرف : ٤٤) وقوله :﴿ا وَالْقُرْءَانِ ذِى الذِّكْرِ﴾ (ص : ١) وقوله :﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ﴾ (الحجر : ٩) وقوله :﴿وَمَا عَلَّمْنَـاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنابَغِى لَه ا ﴾ (يس : ٦٩) وقوله :﴿وَهَـاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَـاه ﴾ (الأنبياء : ٥) وبيان أن الذكر محدث قوله في هذا الموضع :﴿مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ﴾ وقوله في سورة الشعراء :﴿مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ﴾ ثم قالوا : فصار مجموع هاتين المقدمتين المنصوصتين كالنص في أن القرآن محدث والجواب من وجهين : الأول : أن قوله :﴿إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِّلْعَـالَمِينَ﴾ وقوله :﴿وَهَـاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ﴾ إشارة إلى المركب من الحروف والأصوات فإذا ضممنا إليه قوله :﴿مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ﴾ لزم حدوث المركب من الحروف والأصوات وذلك مما لا نزاع فيه بل حدوثه معلوم بالضرورة، وإنما النزاع في قدم كلام الله تعالى بمعنى آخر. الثاني : أن قوله :﴿مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ﴾ لا يدل على حدوث كل ما كان ذكراً بل على ذكر ما محدث كما أن قول القائل لا يدخل هذه البلدة رجل فاضل إلا يبغضونه، فإنه لا يدل على أن كل رجل يجب أن يكون / فاضلاً بل على أن في الرجال من هو فاضل وإذا كان كذلك فالآية لا تدل إلا على أن بعض الذكر محدث فيصير نظم الكلام هكذا القرآن ذكر وبعض الذكر محدث وهذا لا ينتج شيئاً كما أن قول القائل : الإنسان حيوان وبعض الحيوان فرس لا ينتج شيئاً فظهر أن الذي ظنوه قاطعاً لا يفيد ظناً ضعيفاً فضلاً عن القطع. أما قوله :﴿إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ﴾ ففيه مسائل :
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٢١
المسألة الأولى : أن ذلك ذم للكفار وزجر لغيرهم عن مثله لأن الإنتفاع بما يسمع لا يكون إلا بما يرجع إلى القلب من تدبر وتفكر، وإذا كانوا عند استماعه لاعبين حصلوا على مجرد الاستماع الذي قد تشارك البهيمة فيه الإنسان ثم أكد تعالى ذمهم بقوله :﴿لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ﴾ واللاهية من لهى عنه إذا ذهل وغفل، وإنما ذكر اللعب مقدماً على اللهو كما في قوله تعالى :﴿إِنَّمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ﴾ (محمد : ٣٦) تنبيهاً على أن اشتغالهم باللعب الذي معناه السخرية والإستهزاء معلل باللهو الذي معناه الذهول والغفلة، فإنهم أقدموا على اللعب للهوهم وذهولهم عن الحق، والله أعلم بالصواب.
المسألة الثانية : قال صاحب الكشاف :﴿وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ﴾ حالان مترادفان أو متداخلان ومن قرأ لاهية بالرفع فالحال واحدة لأن لاهية قلوبهم خبر بعد خبر لقوله :﴿وَهُمْ﴾.
أما قوله :﴿وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ ففيه سؤالان :
السؤال الأول : النجوى وهي اسم من التناجي لا تكون إلا خفية فما معنى قوله :﴿وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ﴾. الجواب : معناه بالغوا في إخفائها وجعلوها بحيث لا يفطن أحد لتناجيهم.
السؤال الثاني : لم قال :﴿وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾. الجواب : أبدل الذين ظلموا من أسروا إشعاراً بأنهم هم الموسومون بالظلم الفاحش فيما أسروا به أو جاء على لغة من قال : أكلوني البراغيث أو هو منصوب المحل على الذم أو هو مبتدأ خبره :﴿وَأَسَرُّوا النَّجْوَى﴾ قدم عليه والمعنى وهؤلاء أسروا النجوى فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلاً على فعلهم بأنه ظلم.
أما قوله :﴿هَلْ هَـاذَآ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُكُم أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب الكشاف هذا الكلام كله في محل النصب بدلاً من النجوى أي وأسروا هذا الحديث ويحتمل أن يكون التقدير وأسروا النجوى وقالوا هذا الكلام.
المسألة الثانية : إنما أسروا هذا الحديث لوجهين : أحدهما : أنه كان ذلك شبهة التشاور فيما بينهم والتحاور في طلب الطريق إلى هدم أمره، وعادة المتشاورين أن يجتهدوا في كتمان سرهم عن أعدائهم. الثاني : يجوز أن يسروا نجواهم بذلك ثم يقولوا لرسول الله والمؤمنين إن كان ما تدعونه حقاً فأخبرونا بما أسررناه.
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٢١


الصفحة التالية
Icon