المسألة الرابعة : إنما قدم السميع على العليم لأنه لا بد من سماع الكلام أولاً ثم من حصول العلم بمعناه، أما قوله :﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَـاثُ أَحْلَـاما بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِـاَايَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الاوَّلُونَ﴾ فاعلم أنه تعالى عاد إلى حكاية قولهم المتصل بقوله :﴿هَلْ هَـاذَآ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُكُم أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ﴾ (الأنبياء : ٣) ثم قال :﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَـاثُ أَحْلَـاما بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ﴾ فحكى عنهم ثم هذه الأقوال الخمسة فترتيب كلامهم كأنهم قالوا : ندعي أن كونه بشراً مانع من كونه رسولاً لله تعالى. سلمنا أنه غير مانع، ولكن لا نسلم أن هذا القرآن معجز، ثم إما أن يساعد على أن فصاحة القرآن خارجة عن مقدور البشر، قلنا : لم لا يجوز أن يكون ذلك سحراً وإن لم يساعد عليه فإن ادعينا كونه في نهاية الركاكة قلنا : إنها أضغاث أحلام، وإن ادعينا أنه متوسط بين الركاكة والفصاحة قلنا إنه افتراه، وإن ادعينا إنه كلام فصيح قلنا إنه من جنس فصاحة سائر الشعراء، وعلى جميع هذه التقديرات فإنه لا يثبت كونه معجزاً، ولما فرغوا من تعديد هذه الاحتمالات قالوا :﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَـاثُ أَحْلَـاما بَلِ﴾ فالمراد أنهم طلبوا آية جلية لا يتطرق إليها شيء من هذه الاحتمالات كالآيات المنقولة عن موسى وعيسى عليهما السلام، ثم إن الله تعالى بدأ بالجواب عن هذا السؤال الأخير بقوله :﴿مَآ ءَامَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـاهَآا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ﴾ والمعنى أنهم في العتو أشد من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات وعهدوا أنهم يؤمنون عندها فلما جاءتهم نكثوا وخالفوا/ فأهلكهم الله، فلو أعطيناهم ما يقترحون لكانوا أشد نكثاً. قال الحسن رحمه الله تعالى : إنهم لم يجابوا لأن حكم الله تعالى أن من كذب بعد الإجابة إلى ما اقترحه من الآيات فلا بد من أن ينزل به عذاب الاستئصال وقد مضى حكمه في أمة محمد صلى الله عليه وسلّم خاصة بخلافه فلذلك لم يجبهم.
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٢٢
١٢٣
اعلم أنه تعالى أجاب عن سؤالهم الأول وهو قولهم :﴿مَا هَـاذَآ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾ (المؤمنون : ٣٣) بقوله :﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالا نُّوحِى إِلَيْهِمْ ﴾ فبين أن هذه عادة الله تعالى في الرسل من قبل محمد صلى الله عليه وسلّم ولم يمنع ذلك من كونهم رسلاً للآيات التي ظهرت عليهم فإذا صح ذلك فيهم فقد ظهر على محمد مثل آياتهم فلا مقال عليه في كونه بشراً فأما قوله تعالى :﴿فَسْـاَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ﴾ فالمعنى أنه تعالى أمرهم أن يسألوا أهل الذكر وهم أهل الكتاب حتى يعلموهم أن رسل الله الموحى إليهم كانوا بشراً ولم يكونوا ملائكة، وإنما أحالهم على هؤلاء لأنهم كانوا يتابعون المشركين في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال تعالى :﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ﴾ (آل عمران : ١٨٦) فإن قيل إذا لم يوثق باليهود والنصارى، فكيف يجوز أن يأمرهم بأن يسألوهم عن الرسل قلنا : إذا تواتر خبرهم وبلغ حد الضرورة جاز ذلك، كما قد يعمل بخبر الكفار إذا تواتر، مثل ما يعمل بخبر المؤمنين. ومن الناس من قال : المراد بأهل الذكر أهل القرآن وهو بعيد لأنهم كانوا طاعنين في القرآن وفي الرسول صلى الله عليه وسلّم فأما تعلق كثير من الفقهاء بهذه الآية في أن للعامي أن يرجع إلى فتيا العلماء وفي أن للمجتهد أن يأخذ بقول مجتهد آخر فبعيد لأن هذه الآية خطاب مشافة وهي واردة في هذه الواقعة المخصوصة ومتعلقة باليهود والنصارى على التعيين. ثم بين تعالى أنه لم يجعل الرسل قبله جسداً لا يأكلون الطعام وفيه أبحاث :
البحث الأول : قوله :﴿لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ﴾ صفة جسد والمعنى وما جعلنا الأنبياء ذوي جسد غير طاعمين.
جزء : ٢٢ رقم الصفحة : ١٢٣
البحث الثاني : وحد الجسد لإرادة الجنس كأنه قال ذوي ضرب من الأجساد.


الصفحة التالية
Icon